مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٨٠
واعلم أن كلمة (ذلك) للإشارة إلى شيء سبق ذكره فقوله وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا يقتضي تشبيه وحي اللّه بالقرآن بشيء هاهنا قد سبق ذكره، وليس هاهنا شيء سبق ذكره يمكن تشبيه وحي القرآن به إلا قوله وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الشورى : ٦] يعني كما أوحينا إليك أنك لست حفيظا عليهم ولست وكيلا عليهم، فكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتكون نذيرا لهم وقوله تعالى : لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى أي لتنذر أهل أم القرى لأن البلد لا تعقل وهو كقوله وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف : ٨٢] وأم القرى أصل القرى وهي مكة وسميت بهذا الاسم إجلالا لها لأن فيها البيت ومقام إبراهيم، والعرب تسمي أصل كل شيء أمه حتى يقال هذه القصيدة من أمهات قصائد فلان، ومن حولها من أهل البدو والحضر وأهل المدر، والإنذار التخويف، فإن قيل فظاهر اللفظ يقتضي أن اللّه تعالى إنما أوحى إليه لينذر أهل مكة وأهل القرى المحيطة بمكة وهذا يقتضي أن يكون رسولا إليهم فقط وأن لا يكون رسولا إلى كل العالمين الجواب : أن التخصيص بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما سواه، فهذه الآية تدل على كونه رسولا إلى هؤلاء / خاصة وقوله وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ : ٢٨] يدل على كونه رسولا إلى كل العالمين، وأيضا لما ثبت كونه رسولا إلى أهل مكة وجب كونه صادقا، ثم إنه نقل إلينا بالتواتر كان يدعى أنه رسول إلى كل العالمين، والصادق إذا أخبر عن شيء وجب تصديقه فيه، فثبت أنه رسول إلى كل العاملين.
ثم قال تعالى : وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ الأصل أن يقال أنذرت فلانا بكذا فكان الواجب أن يقال لتنذر أم القرى بيوم الجمع وأيضا فيه إضمار والتقدير لتنذر أهل أم القرى بعذاب يوم الجمع وفي تسميته بيوم الجمع وجوه الأول : أن الخلائق يجمعون فيه قال تعالى : يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [التغابن : ٩] فيجتمع فيه أهل السموات من أهل الأرض الثاني : أنه يجمع بين الأرواح والأجساد الثالث : يجمع بين كل عامل وعمله الرابع : يجمع بين الظالم والمظلوم وقوله لا رَيْبَ فِيهِ صفة ليوم الجمع الذي لا ريب فيه، وقوله فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ تقديره ليوم الجمع الذي من صفته يكون القوم فيه فريقين، فريق في الجنة وفريق في السعير، فإن قيل قوله يَوْمَ الْجَمْعِ يقتضي كون القوم مجتمعين وقوله فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ يقتضي كونهم متفرقين، والجمع بين الصفتين محال، قلنا إنهم يجتمعون أولا ثم يصيرون فريقين.
ثم قال : وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً والمراد تقرير قوله وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الشورى : ٦] أي لا يكن في قدرتك أن تحملهم على الإيمان، فلو شاء اللّه ذلك لفعله لأنه أقدر منك، ولكنه جعل البعض مؤمنا والبعض كافرا، فقوله يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ يدل على


الصفحة التالية
Icon