مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٨٤
وجه الإنسان مخالف لوجه الحمار، ولقد صدقوا فإنه حصلت تلك بسبب الشكل واللون وسائر الصفات، فأما الأجسام من حيث إنها أجسام فهي متماثلة متساوية، فثبت أن الكلام / الذي أورده إنما ذكره لأجل أنه كان من العوام وما كان يعرف أن المعتبر في التماثل والاختلاف حقائق الأشياء وماهياتها لا الأعراض والصفات القائمة بها، بقي هاهنا أن يقال فما الدليل على أن الأجسام كلها متماثلة؟ فنقول لنا ها هنا مقامان :
المقام الأول : أن نقول هذه المقدمة إما أن تكون مسلمة أو لا تكون مسلمة، فإن كانت مسلمة فقد حصل المقصود، وإن كانت ممنوعة، فنقول فلم لا يجوز أن يقال إله العالم هو الشمس أو القمر أو الفلك أو العرش أو الكرسي، ويكون ذلك الجسم مخالفا لماهية سائر الأجسام فكان هو قديما أزليا واجب الوجود وسائر الأجسام محدثة مخلوقة، ولو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن يسقطوا هذا الإلزام عن المجسمة لا يقدرون عليه؟
فإن قالوا هذا باطل لأن القرآن دل على أن الشمس والقمر والأفلاك كلها محدثة مخلوقة فيقال هذا من باب الحماقة المفرطة لأن صحة القرآن وصحة نبوة الأنبياء مفرعة على معرفة الإله، فإثبات معرفة الإله بالقرآن وقول النبي لا يقوله عاقل يفهم ما يتكلم به.
والمقام الثاني : أن علماء الأصول أقاموا البرهان القاطع على تماثل الأجسام في الذوات والحقيقة، وإذا ثبت هذ ظهر أنه لو كان إله العالم جسما لكانت ذاته مساوية لذوات الأجسام إلا أن هذا باطل بالعقل والنقل، أما العقل فلأن ذاته إذا كانت مساوية لذوات سائر الأجسام وجب أن يصح عليه ما يصح على سائر الأجسام، فيلزم كونه محدثا مخلوقا قابلا للعدم والفناء قابلا للتفرق والتمزق. وأما النقل فقوله تعالى : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل وعند هذا يظهر أنا لا نقول بأنه متى حصل الاستواء في الصفة لزم حصول الاستواء في تمام الحقيقة إلا أنا نقول لما ثبت أن الأجسام متماثلة في تمام الماهية، فلو كانت ذاته جسما لكن ذلك الجسم مساويا لسائر الأجسام في تمام الماهية، وحينئذ يلزم أن يكون كل جسم مثلا له، لما بينا أن المعتبر في حصول المماثلة اعتبار الحقائق من حيث هي هي، لا اعتبار الصفات القائمة بها فظهر بالتقرير الذي ذكرناه أن حجة أهل التوحيد في غاية القوة، وأن هذه الكلمات التي أوردها هذا الإنسان إنما أوردها لأنه تعالى بعيدا عن معرفة الحقائق، فجرى على منهج كلمات العوام فاغتر بتلك الكلمات التي ذكرها ونسأل اللّه تعالى حسن الخاتمة.
المسألة الثانية : في ظاهر هذه الآية إشكال، فإنه يقال المقصود منها نفي المثل عن اللّه تعالى وظاهرها يوجب إثبات المثل للّه، فإنه يقتضي نفي المثل عن مثله لا عنه، وذلك يوجب إثبات المثل للّه تعالى، وأجاب العلماء عنه بأن قالوا إن العرب تقول مثلك لا يبخل أي أنت لا تبخل فنفوا البخل عن مثله، وهم يريدون نفيه عنه، ويقول الرجل : هذا الكلام لا يقال لمثلي أي لا يقال لي قال الشاعر :
«و مثلي كمثل جذوع النخيل»
والمراد منه المبالغة فإنه إذا كان ذلك الحكم منتفيا عمن كان مشابها بسبب كونه مشابها له، فلأن يكون منتفيا عنه كان ذلك أولى، ونظيره قولهم : سلام على المجلس العالي، والمقصود أن سلام اللّه إذا كان واقعا على مجلسه وموضعه فلأن يكون واقعا عليه كان ذلك أولى، فكذا هاهنا قوله تعالى : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ والمعنى ليس كهو شيء على سبيل المبالغة من الوجه الذي ذكرناه، وعلى هذا التقدير فلم يكن هذا اللفظ ساقطا


الصفحة التالية
Icon