مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٦٠٢
[في قوله تعالى وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ ] في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وأبو عمرو الجواري بياء في الوصل والوقف، فإثبات الياء على الأصل وحذفها للتخفيف.
المسألة الثانية : الجواري، يعني السفن الجواري، فحذف الموصوف لعدم الالتباس.
المسألة الثالثة : اعلم أنه تعالى ذكر من آياته أيضا هذه السفن العظيمة التي تجري على وجه البحر عند هبوب الرياح، واعلم أن المقصود من ذكره أمران أحدهما : أن يستدل به على وجود القادر الحكيم والثاني : أن يعرف ما فيه من النعم العظيمة للّه تعالى على العباد أما الوجه الأول : فقد اتفقوا على أن المراد بالأعلام الجبال، قالت الخنساء في مرثية أخيها :
وإن صخرا لتأتم لهداة به كأنه علم في رأسه نار
ونقل أن النبي صلى اللّه عليه وسلّم استنشد قصيدتها هذه فلما وصل الراوي إلى هذا البيت، قال :«قاتلها اللّه ما رضيت بتشبيهها له بالجبل حتى جعلت على رأسه نارا!»
إذا عرفت هذا فنقول : هذه السفن العظيمة التي تكون كالجبال تجري على وجه البحر عند هبوب الرياح على أسرع الوجوه، وعند سكون هذه الرياح تقف، وقد بينا بالدليل في سورة النحل، أن محرك الرياح ومسكنها هو اللّه تعالى، إذ لا يقدر أحد على تحريكها من البشر ولا على تسكينها، وذلك يدل على وجود الإله القادر، وأيضا أن السفينة تكون في غاية الثقل، ثم إنها مع ثقلها بقيت على وجه الماء، وهو أيضا دلالة أخرى وأما الوجه الثاني : وهو معرفة ما فيها من المنافع، فهو أنه تعالى خص كل جانب من جوانب الأرض بنوع آخر من الأمتعة، وإذا نقل متاع هذا الجانب إلى ذلك الجانب في السفن وبالعكس حصلت المنافع العظيمة في التجارة، فلهذه الأسباب ذكر اللّه تعالى حال هذه السفينة.
ثم قال تعالى : إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ قرأ أبو عمرو والجمهور : بهمزة إِنْ يَشَأْ لأن سكون الهمزة علامة للجزم، وعن ورش عن نافع بلا همزة، وقرأ نافع وحده يسكن الرياح على الجمع، والباقون الرِّيحَ على الواحد، قال صاحب «الكشاف» : قرئ فَيَظْلَلْنَ بفتح اللام وكسرها من ظل يظل ويظل، وقوله تعالى : رَواكِدَ أي رواتب، أي لا تجري على ظهره، أي على ظهر البحر إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ على بلاء اللّه شَكُورٍ لنعمائه، والمقصود التنبيه، على أن المؤمن يجب أن لا يكون غافلا عن دلائل معرفة اللّه ألبتة، لأنه لا بد وأن يكون إما في البلاء، وإما في الآلاء، فإن كان في البلاء كان من الصابرين، وإن كان من النعماء كان من الشاكرين، وعلى هذا التقدير فإنه لا يكون ألبتة من الغافلين.
ثم قال تعالى : أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا يعني أو يهلكهن، يقال أوبقه، أي أهلكه، ويقال للمجرم أوبقته ذنوبه، أي أهلكته، والمعنى أنه تعالى إن شاء ابتلى المسافرين في البحر بإحدى بليتين : إما أن يسكن الريح فتركد الجواري على متن البحر وتقف، وإما أن يرسل الرياح عاصفة فيها فيهلكن بسبب الإغراق، وعلى هذا التقدير فقوله أَوْ يُوبِقْهُنَّ معطوف على قوله يُسْكِنِ لأن التقدير إن يشأ يسكن الريح فيركدن، أو يعصفها فيغرقن بعصفها، وقوله ويعفوا عن كثير معناه إن يشأ يهلك ناسا وينج ناسا عن طريق العفو عنهم، فإن قيل فما معنى إدخال العفو في حكم الإيباق حيث جعل مجزوما مثله، قلنا معناه إن يشأ يهلك ناسا وينج ناسا على


الصفحة التالية
Icon