مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٦١٩
ثم قال تعالى : وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ والمعنى أن عادة الأمم مع الأنبياء الذين يدعونهم إلى الدين الحق هو التكذيب والاستهزاء، فلا ينبغي أن تتأذى من قومك بسبب إقدامهم على التكذيب والاستهزاء لأن المصيبة إذا عمت خفت.
ثم قال تعالى : فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً يعني أن أولئك المتقدمين الذين أرسل اللّه إليهم الرسل كانوا أشد بطشا من قريش يعني أكثر عددا وجلدا، ثم قال : وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ والمعنى أن كفار مكة سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم فليحذروا أن ينزل بهم من الخزي مثل ما نزل بهم فقد ضربنا لهم مثلهم كما قال : وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ [الفرقان : ٣٩] وكقوله وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إلى قوله وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ [إبراهيم : ٤٥] واللّه أعلم.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٩ إلى ١٤]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣)
وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤)
اعلم أنه قد تقدم ذكر المسرفين وهم المشركون وتقدم أيضا ذكر الأنبياء فقوله وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يحتمل أن يرجع إلى الأنبياء، ويحتمل أن يرجع إلى الكفار إلا أن الأقرب رجوعه إلى الكفار، فبيّن تعالى أنهم مقرون بأن خالق السموات والأرض وما بينهما هو اللّه العزيز الحكيم، والمقصود أنهم مع كونهم مقرين بهذا المعنى يعبدون معه غيره وينكرون قدرته على البعث، وقد تقدم الإخبار عنهم، ثم إنه تعالى ابتدأ دالا على نفسه بذكر مصنوعاته فقال : الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً ولو كان هذا من جملة كلام الكفار ولوجب أن يقولوا : الذي جعل لنا الأرض مهدا، ولأن قوله في أثناء الكلام فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً لا يتعلق إلا بكلام اللّه ونظيره من كلام الناس أن يسمع الرجل رجلا يقول الذي بنى هذا المسجد فلان العالم فيقول السامع لهذا الكلام الزاهد الكريم كأن ذلك السامع يقول أنا أعرفه بصفات حميدة فوق ما تعرفه فأزيد في وصفه فيكون النعتان جميعا من رجلين لرجل واحد. إذا عرفت كيفية النظم في الآية فنقول إنها تدل على أنواع من صفات اللّه تعالى.
الصفة الأولى : كونه خالقا للسموات والأرض والمتكلمون بينوا أن أول العلم باللّه العلم بكونه محدثا للعالم فاعلا له، فلهذا السبب وقع الابتداء بذكر كونه خالقا، وهذا إنما يتم إذا فسرنا الخلق بالإحداث والإبداع.
الصفة الثانية : العزيز وهو الغالب وما لأجله يحصل المكنة من الغلبة هو القدرة وكان العزيز إشارة إلى كمال القدرة.
الصفة الثالثة : العليم وهو إشارة إلى كمال العلم، واعلم أن كمال العلم والقدرة إذا حصل كان الموصوف


الصفحة التالية
Icon