مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٦٢٧
واعلم أن الجواب الحق عندي عن هذا الكلام ما ذكرناه في سورة الأنعام، وهو أن القوم إنما ذكروا هذا الكلام لأنهم استدلوا بمشيئة اللّه تعالى للكفر على أنه لا يجوز ورود الأمر بالإيمان فاعتقدوا أن الأمر والإرادة يجب كونهما متطابقين، وعندنا أن هذا باطل فالقوم لم يستحقوا الذم بمجرد قولهم إن اللّه يريد الكفر من الكافر بل لأجل أنهم قالوا لما أراد الكفر من الكافر وجب أن يقبح منه أمر الكافر بالإيمان، وإذا صرفنا الذم والطعن إلى هذا المقام سقط استدلال المعتزلة بهذه الآية، وتمام التقرير مذكور في سورة الأنعام واللّه أعلم.
المسألة الثانية : أنه تعالى لما حكى عنهم ذلك المذهب الباطل قال : ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ وتقريره كأنه قيل إن القوم يقولون لما أراد اللّه الكفر من الكافر وخلق فيه ما أوجب ذلك الكفر وجب أن يقبح منه أن يأمره بالإيمان لأن مثل هذا التكليف قبيح في الشاهد فيكون قبيحا في الغائب فقال تعالى : ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي ما لهم بصحة هذا القياس من علم، وذلك لأن أفعال الواحد منا وأحكامه مبنية على رعاية المصالح والمفاسد لأجل أن كل ما سوى اللّه فإنه ينتفع بحصول المصالح ويستضر بحصول المفاسد، فلا جرم أن صريح طبعه وعقله يحمله على بناء أحكامه وأفعاله على رعاية المصالح، أما اللّه سبحانه وتعالى فإنه لا ينفعه شيء ولا يضره شيء فكيف يمكن القطع بأنه تعالى يبني أحكامه وأفعاله على رعاية المصالح مع ظهور هذا الفارق العظيم فقوله تعالى : ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي ما لهم بصحة قياس الغائب على الشاهد في هذا الباب علم.
ثم قال : إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أي كما لم يثبت لهم صحة ذلك القياس فقد ثبت بالبرهان القاطع كونهم كذابين خراصين في ذلك القياس لأن قياس المنزّه عن النفع والضر من كل الوجوه على المحتاج المنتفع المتضرر قياس باطل في بديهة العقل.
ثم قال : أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ يعني أن القول الباطل الذي حكاه اللّه تعالى عنهم عرفوا صحته بالعقل أو بالنقل، أما إثباته بالعقل فهو باطل لقوله ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ وأما إثباته بالنقل فهو أيضا باطل لقوله أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ والضمير في قوله مِنْ قَبْلِهِ للقرآن أو للرسول، والمعنى أنهم [هل ] وجدوا ذلك الباطل في كتاب منزل قبل القرآن حتى جاز لهم أن يعولوا عليه، وأن يتمسكوا به، والمقصود منه ذكره في معرض الإنكار، ولما ثبت أنه لم يدل عليه لا دليل عقلي ولا دليل نقلي وجب أن يكون القول به باطلا.
ثم قال تعالى : بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ والمقصود أنه تعالى لما بيّن أنه لا دليل لهم على صحة ذلك القول ألبتة بين أنه ليس لهم حامل يحملهم عليه إلا التقليد المحض، ثم بيّن أن تمسك الجهال بطريقة التقليد أمر كان حاصلا من قديم الدهر فقال : وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب «الكشاف» : قرئ على إمة بالكسر وكلتاهما من الأم وهو القصد، فالأمة الطريقة التي تؤم أي تقصد كالرحلة للمرحول إليه، والإمة الحالة التي يكون عليها الآم وهو القاصد.
المسألة الثانية : لو لم يكن في كتاب اللّه إلا هذه الآيات لكفت في إبطال القول بالتقليد وذلك لأنه تعالى


الصفحة التالية
Icon