مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٦٣٧
ثم قال تعالى : وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ فإن قيل كيف سموه بالساحر مع قولهم إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ؟ قلنا فيه وجوه الأول : أنهم كانوا يقولون للعالم الماهر ساحر، لأنهم كانوا يستعظمون السحر، وكما يقال في زماننا في العامل العجيب الكامل إنه أتى بالسحر الثاني : يا أَيُّهَا السَّاحِرُ في زعم الناس ومتعارف قوم فرعون كقوله يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر : ٦] أي نزل عليه الذكر في اعتقاده وزعمه الثالث : أن قولهم إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ وقد كانوا عازمين على خلافه ألا ترى إلى قوله فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ فتسميتهم إياه بالسحر لا ينافي قولهم إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ ثم بيّن تعالى أنه لما كشف عنهم العذاب نكثوا ذلك العهد.
ولما حكى اللّه تعالى معاملة فرعون مع موسى، حكى أيضا معاملة فرعون معه فقال : وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ والمعنى أنه أظهر هذا القول فقال : قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي يعني الأنهار التي فصلوها من النيل ومعظمها أربعة نهر الملك ونهر طولون ونهر دمياط ونهر تنيس، قيل كانت تجري تحت قصره، وحاصل الأمر أنه احتج بكثرة أمواله وقوة جاهه على فضيلة نفسه.
ثم قال : أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ وعنى بكونه مهينا كونه فقيرا ضعيف الحال، وبقوله وَلا يَكادُ يُبِينُ حبسة كانت في لسانه، واختلفوا في معنى أم هاهنا فقال أبو عبيدة مجازها بل أنا خير، وعلى هذا فقد تم الكلام عند قوله أَفَلا تُبْصِرُونَ ثم ابتدأ فقال : أَمْ أَنَا خَيْرٌ بمعنى بل أنا خير، وقال الباقون أم هذه متصلة لأن المعنى أفلا تبصرون أم تبصرون إلا أنه وضع قوله أَنَا خَيْرٌ موضع تبصرون، لأنهم إذا قالوا له أنت خير فهم عنده بصراء، وقال آخرون إن تمام الكلام عند قوله أَمْ وقوله أَنَا خَيْرٌ ابتداء الكلام والتقدير أفلا / تبصرون أم تبصرون لكنه اكتفى فيه بذكر أم كما تقول لغيرك : أتأكل أم أي أتأكل أم لا تأكل، تقتصر على ذكر كلمة أم إيثارا للاختصار فكذا هاهنا، فإن قيل أليس أن موسى عليه السلام سأل اللّه تعالى أن يزيل الرتة عن لسانه بقوله وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه : ٢٧] فأعطاه اللّه تعالى ذلك بقوله قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى [طه : ٣٦] فكيف عابه فرعون بتلك الرتة؟ والجواب : عنه من وجهين :
الأول : أن فرعون أراد بقوله وَلا يَكادُ يُبِينُ حجته التي تدل على صدقه فيما يدعي ولم يرد أنه لا قدرة له على الكلام والثاني : أنه عابه بما كان عليه أولا، وذلك أن موسى كان عند فرعون زمانا طويلا وفي لسانه حبسة، فنسبه فرعون إلى ما عهده عليه من الرتة لأنه لم يعلم أن اللّه تعالى أزال ذلك العيب عنه.
ثم قال : فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ والمراد أن عادة القوم جرت بأنهم إذا جعلوا واحدا منهم رئيسا لهم سوروه بسوار من ذهب وطوقوه بطوق من ذهب، فطلب فرعون من موسى مثل هذه الحالة، واختلف القراء في أسورة فبعضهم قرأ أسورة وآخرون أساورة فأسورة جمع سوار لأدنى العدد، كقولك حمار وأحمرة وغراب وأغربة، ومن قرأ أساورة فذاك لأن أساوير جمع أسوار وهو السوار فأساورة تكون الهاء عوضا عن الياء، نحو بطريق وبطارقة وزنديق وزنادقة وفرزين وفرازنة فتكون أساورة جمع أسوار، وحاصل الكلام يرجع إلى حرف واحد وهو أن فرعون كان يقول أنا أكثر مالا وجاها، فوجب أن أكون أفضل منه فيمتنع كونه رسولا من اللّه، لأن منصب النبوة يقتضي المخدومية، والأخس لا يكون مخدوما للأشرف، ثم المقدمة الفاسدة هي قوله من كان أكثر مالا وجاها فهو أفضل وهي عين المقدمة التي تمسك بها كفار قريش في قولهم لَوْلا نُزِّلَ هذَا