مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ١٢٥
المسألة الثانية : ذلك إشارة إلى ما قاله وهو الإنذار، وقوله هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ [ق : ٢] إشارة إلى المجيء على ما قلنا، فلما اختلفت الصفتان نقول المجيء والجائي كل واحد حاضر. وأما الإنذار وإن كان حاضرا لكن لكون المنذر به لما كان غير حاضر قالوا فيه ذلك، والرجع مصدر رجع يرجع إذا / كان متعديا، والرجوع مصدره إذا كان لازما، وكذلك الرجعي مصدر عند لزومه، والرجع أيضا يصح مصدرا للازم، فيحتمل أن يكون المراد بقوله ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ أي رجوع بعيد، ويحتمل أن يكون المراد الرجع المتعدي، ويدل على الأول قوله تعالى : إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
[العلق : ٨] وعلى الثاني قوله تعالى : أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ [النازعات : ١٠] أي مرجعون فإنه من الرجع المتعدي، فإن قلنا هو من المتعدي، فقد أنكروا كونه مقدورا في نفسه. ثم إن اللّه تعالى قال :
[سورة ق (٥٠) : آية ٤]
قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤)
إشارة إلى دليل جواز البعث وقدرته تعالى عليه، وذلك لأن اللّه تعالى بجميع أجزاء كل واحد من الموتى لا يشتبه عليه جزء أحد على الآخر، وقادر على الجمع والتأليف، فليس الرجوع منه ببعد، وهذا كقوله تعالى :
وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس : ٨١] حيث جعل للعلم مدخلا في الإعادة، وقوله قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ يعني لا تخفى علينا أجزاؤهم بسبب تشتتها في تخوم الأرضين، وهذا جواب لما كانوا يقولون أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ [السجدة : ١٠] يعني أن ذلك إشارة إلى أنه تعالى كما يعلم أجزاؤهم يعلم أعمالهم من ظلمهم، وتعديهم بما كانوا يقولون وبما كانوا يعملون، ويحتمل أن يقال معنى قوله تعالى : وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ هو أنه عالم بتفاصيل الأشياء، وذلك لأن العلم إجمالي وتفصيلي، فالإجمالي كما يكون عند الإنسان الذي يحفظ كتابا ويفهمه، ويعلم أنه إذا سئل عن أية مسألة تكون في الكتاب يحضر عنده الجواب، ولكن ذلك لا يكون نصب عينيه حرفا بحرف، ولا يخطر بباله في حالة بابا بابا، أو فصلا فصلا، ولكن عند العرض على الذهن لا يحتاج إلى تجديد فكر وتحديد نظر، والتفصيلي مثل الذي يعبر عن الأشياء، والكتاب الذي كتب فيه تلك المسائل، وهذا لا يوجد عند الإنسان إلا في مسألة أو مسألتين. أما بالنسبة إلى كتاب فلا يقال : وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ يعني العلم عندي كما يكون في الكتاب أعلم جزءا جزءا وشيئا شيئا، والحفيظ يحتمل أن يكون بمعنى المحفوظ، أي محفوظ من التغيير والتبديل، ويحتمل أن يكون بمعنى الحافظ، أي حافظ أجزاءهم وأعمالهم بحيث لا ينسى شيئا منها، والثاني هو الأصح لوجهين أحدهما : أن الحفيظ بمعنى الحافظ وارد في القرآن، قال تعالى : وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ «١» [الأنعام : ١٠٤] وقال تعالى : اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ [الشورى : ٦] «٢» ولأن الكتاب على ما ذكرنا للتمثيل فهو يحفظ الأشياء، وهو مستغن عن أن يحفظ.
[سورة ق (٥٠) : آية ٥]
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥)
وقوله تعالى : بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ.

(١) في تفسير الرازي المطبوع وما أنت عليهم بحفيظ وهو خطأ والصواب ما أثبتناه من المعجم المفهرس.
(٢) في تفسير الرازي المطبوع واللّه حفيظ عليم وهو خطأ والصواب ما أثبتناه من المعجم المفهرس.


الصفحة التالية
Icon