مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ١٢٨
مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ [يس : ٧٨] نقول هناك الاستدلال بالسموات لما لم يعقب الإنكار على عقيب الإنكار استدل بدليل آخر، وهو قوله تعالى : قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس : ٧٩] ثم ذكر الدليل الآخر، وهاهنا الدليل كان عقيب الإنكار فذكر بالفاء، وأما قوله هاهنا بلفظ النظر، وفي الأحقاف بلفظ الرؤية، ففيه لطيفة وهي أنهم هاهنا لما استبعدوا أمر الرجع بقولهم ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق : ٣] استبعد استبعادهم، وقال : أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ لأن النظر دون الرؤية فكأن النظر كان في حصول العلم بإنكار الرجع ولا حاجة إلى الرؤية ليقع الاستبعاد في مقابلة الاستبعاد، وهناك لم يوجد منهم بإنكار مذكور فأرشدهم إليه بالرؤية التي هي أتم من النظر، ثم إنه تعالى كمل ذلك وجمله بقوله إِلَى السَّماءِ ولم يقل في السماء لأن النظر في الشيء ينبئ عن التأمل والمبالغة والنظر إلى الشيء ينبئ عنه، لأن إلى للغاية فينتهي النظر عنده في الدخول في معنى الظرف فإذا انتهى النظر إليه ينبغي أن ينفذ فيه حتى يصح معنى الظرفية وقوله تعالى : فَوْقَهُمْ تأكيد آخر أي وهو ظاهر فوق رؤوسهم غير غائب عنهم، وقوله تعالى : كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ إشارة إلى وجه الدلالة وأولوية الوقوع وهي للرجع، أما وجه الدلالة فإن الإنسان له أساس هي العظام التي هي كالدعامة وقوى وأنوار كالسمع والبصر فبناء السماء أرفع من أساس البدن، وزينة السماء أكمل من زينة الإنسان بلحم وشحم.
وأما الأولوية فإن السماء ما لها من فروج فتأليفها أشد، وللإنسان فروج ومسام، ولا شك أن التأليف الأشد كالنسج الأصفق والتأليف الأضعف كالنسج الأسخف، والأول أصعب عند الناس وأعجب، فكيف يستبعدون الأدون مع علمهم بوجود الأعلى من اللّه تعالى؟ قالت الفلاسفة الآية دالة على أن السماء لا تقبل الخرق، وكذلك قالوا في قوله هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الملك : ٣] وقوله سَبْعاً شِداداً [النبأ : ١٢] وتعسفوا فيه لأن / قوله تعالى : ما لَها مِنْ فُرُوجٍ صريح في عدم ذلك، والإخبار عن عدم الشيء لا يكون إخبارا عن عدم إمكانه فإن من قال : ما لفلان قال؟ لا يدل على نفي إمكانه، ثم إنه تعالى بين خلاف قولهم بقوله وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ [المرسلات : ٩] وقال : إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار : ١] وقال : فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ [الحاقة : ١٦] في مقابلة قوله سَبْعاً شِداداً وقال : فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ [الرحمن : ٣٧] إلى غير ذلك والكل في الرد عليهم صريح وما ذكروه في الدلالة ليس بظاهر، بل وليس له دلالة خفية أيضا، وأما دليلهم المعقول فأضعف وأسخف من تمسكهم بالمنقول. ثم قال تعالى :
[سورة ق (٥٠) : آية ٧]
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧)
إشارة إلى دليل آخر ووجه دلالة الأرض هو أنهم قالوا : الإنسان إذا مات وفارقته القوة الغاذية والنامية لا تعود إليه تلك القوة، فنقول الأرض أشد جمودا وأكثر خمودا واللّه تعالى ينبت فيها أنواع النبات وينمو ويزيد، فكذلك الإنسان تعود إليه الحياة وذكر في الأرض ثلاثة أمور كما ذكر في السماء ثلاثة أمور في الأرض المد وإلقاء الرواسي والإنبات فيها، وفي السماء البناء والتزيين وسد الفروج، وكل واحد في مقابلة واحد فالمد في مقابلة البناء، لأن المد وضع والبناء رفع، والرواسي في الأرض ثابتة والكواكب في السماء مركوزة مزينة لها والإنبات في الأرض شقها كما قال تعالى : أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا [عبس : ٢٥، ٢٦] وهو على خلاف سد الفروج وإعدامها، وإذا علمت هذا ففي الإنسان أشياء موضوعة وأشياء مرفوعة وأشياء ثابتة كالأنف والأذن وأشياء متحركة كالمقلة واللسان، وأشياء مسدودة الفروج كدور الرأس


الصفحة التالية
Icon