مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ١٣
بالإمام وَرَحْمَةً لمن آمن به وعمل بما فيه، ووجه تعلق هذا الكلام بما قبله أن القوم طعنوا في صحة القرآن، وقالوا لو كان خيرا ما سبقنا إليه هؤلاء الصعاليك، وكأنه تعالى قال : الذي يدل على صحة القرآن أنكم لا تنازعون في أن اللّه تعالى أنزل التوراة على موسى عليه السلام، وجعل هذا الكتاب إماما يقتدى به، ثم إن التوراة مشتملة على البشارة بمقدم محمد صلى اللّه عليه وسلم فإذا سلمتم كون التوراة إماما يقتدى به، فاقبلوا حكمه في كون محمد صلى اللّه عليه وسلم حقا من اللّه.
ثم قال تعالى : وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا أي هذا القرآن مصدق لكتاب موسى في أن محمدا رسول حقا من عند اللّه وقوله تعالى : لِساناً عَرَبِيًّا نصب على الحال، ثم قال : لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قال ابن عباس مشركي مكة، وفي قوله لتنذر قراءتان التاء لكثرة ما ورد من هذا المعنى بالمخاطبة كقوله تعالى :
لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [الأعراف : ٢] والياء لتقدم ذكر الكتاب فأسند الإنذار إلى الكتاب كما أسند إلى الرسول، وقوله تعالى : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ إلى قوله لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ [الكهف : ١، ٢].
ثم قال تعالى : وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ قال الزجاج الأجود أن يكون قوله وَبُشْرى في موضع رفع، والمعنى وهو بشرى للمحسنين، قال ويجوز أن يكون في موضع نصب على معنى لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ وحاصل الكلام أن المقصود من إنزال هذا الكتاب إنذار المعرضين وبشارة المطيعين.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١٣ إلى ١٦]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦)
[في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ] اعلم أنه تعالى لما قرر دلائل التوحيد والنبوّة وذكر شبهات المنكرين وأجاب عنها، ذكر بعد ذلك طريقة المحقين والمحققين فقال : إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا وقد ذكرنا تفسير هذه الكلمة في سورة السجدة والفرق بين الموضعين أن في سورة السجدة ذكر أن الملائكة ينزلون ويقولون أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فصلت : ٣٠] وهاهنا رفع الواسطة من البين وذكر أنه فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فإذا جمعنا بين الآيتين حصل من مجموعهما أن الملائكة يبلغون إليهم هذه البشارة، وأن الحق سبحانه يسمعهم هذه البشارة أيضا من غير واسطة.
واعلم أن هذه الآيات دالة على أن من آمن باللّه وعمل صالحا فإنهم بعد الحشر لا ينالهم خوف ولا حزن، ولهذا قال أهل التحقيق إنهم يوم القيامة آمنون من الأهوال، وقال بعضهم خوف العقاب زائل عنهم، أما خوف


الصفحة التالية
Icon