مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ١٤
الجلال والهيبة فلا يزول ألبتة عن العبد، ألا ترى أن الملائكة مع علو درجاتهم وكمال عصمتهم لا يزول الخوف عنهم فقال تعالى : يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل : ٥٠] وهذه المسألة سبقت بالاستقصاء في آيات كثيرة منها قوله تعالى : لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء : ١٠٣].
ثم قال تعالى : أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ قالت المعتزلة : هذه الآية تدل على مسائل أولها : قوله تعالى : أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ وهذا يفيد الحصر، وهذا يدل على أن أصحاب الجنة ليسوا إلا الذين قالوا ربنا اللّه ثم استقاموا، وهذا يدل على أن صاحب الكبيرة قبل التوبة لا يدخل الجنة وثانيها : قوله تعالى : جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وهذا يدل على فساد قول من يقول : الثواب فضل لا جزاء وثالثها : أن قوله تعالى : بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يدل على إثبات العمل للعبد ورابعها : أن هذا يدل على أنه يجوز أن يحصل الأثر في حال المؤثر، أو أي أثر كان موجودا قبل ذلك بدليل أن العمل المتقدم أوجب الثواب المتأخر وخامسها : كون العبد / مستحقا على اللّه تعالى، وأعظم أنواع هذا النوع الإحسان إلى الوالدين، لا جرم أردفه بهذا المعنى، فقال تعالى : وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وقد تقدم الكلام في نظير هذه الآية في سورة العنكبوت، وفي سورة لقمان، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة والكسائي بِوالِدَيْهِ إِحْساناً والباقون حسنا.
واعلم أن الإحسان خلاف الإساءة والحسن خلاف القبيح، فمن قرأ إِحْساناً فحجته قوله تعالى في سورة بني إسرائيل وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الإسراء : ٤٣] والمعنى أمرناه بأن يوصل إليهما إحساناً، وحجة القراءة الثانية قوله تعالى في العنكبوت وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً [العنكبوت : ٨] ولم يختلفوا فيه، والمراد أيضا أنا أمرناه بأن يوصل إليهما فعلا حسنا، إلا أنه سمى ذلك الفعل الحسن بالحسن على سبيل المبالغة، كما يقال : هذا الرجل علم وكرم، وانتصب حسنا على المصدر، لأن معنى وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ أمرناه أن يحسن إليهما إحسانا.
ثم قال تعالى : حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي كرها بضم الكاف، والباقون بفتحها، قيل هما لغتان : مثل الضعف والضعف، والفقر والفقر، ومن غير المصادر : الدف والدف، والشهد والشهد، قال الواحدي : الكره مصدر من كرهت الشيء أكرهه، والكره الاسم كأنه الشيء المكروه قال تعالى : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة : ٢١٦] فهذا بالضم، وقال : أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [النساء : ١٩] فهذا في موضع الحال، ولم يقرأ الثانية بغير الفتح، فما كان مصدرا أو في موضع الحال فالفتح فيه أحسن، وما كان اسما نحو ذهبت به على كره كان الضم فيه أحسن.
المسألة الثانية : قال المفسرون. حملته أمه على مشقة ووضعته في مشقة، وليس يريد ابتداء الحمل، فإن ذلك لا يكون مشقة، وقد قال تعالى : فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً [الأعراف : ١٨٩] يريد ابتداء الحمل، فإن ذلك لا يكون مشقة، فالحمل نطفة وعلقة ومضغة، فإذا أثقلت فحينئذ حملته كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً يريد شدة الطلق.


الصفحة التالية
Icon