مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ١٣٨
وقوله تعالى : قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ إلى أن قال : إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص : ٦١، ٦٤] وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الزمخشري : المراد بالقرين في الآية المتقدمة هو الشيطان لا الملك الذي هو شهيد وقعيد، واستدل عليه بهذا. وقال غيره، المراد الملك لا الشيطان، وهذا يصلح دليلا لمن قال ذلك، وبيانه هو أنه في الأول لو كان المراد الشيطان، فيكون قوله هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ [ق : ٢٣] معناه هذا الشخص عندي عتيد متعد للنار اعتدته بإغوائي، فإن الزمخشري صرّح في تفسير تلك بهذه، وعلى هذا فيكون قوله رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ مناقضا لقوله اعتدته وللزمخشري أن يقول الجواب : عنه من وجهين أحدهما : أن يقول إن الشيطان يقول اعتدته بمعنى زينت له الأمر وما ألجأته فيصح القولان من الشيطان وثانيهما : أن تكون الإشارة إلى حالين : ففي الحالة / الأولى إنما فعلت به ذلك إظهارا للانتقام من بني آدم، وتصحيحا لما قال : فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص : ٨٢] ثم إذا رأى العذاب وأنه معه مشترك وله على الإغواء عذاب، كما قال تعالى : فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ [ص : ٨٤، ٨٥] فيقول رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ فيرجع عن مقالته عند ظهور العذاب.
المسألة الثانية : قال هاهنا قالَ قَرِينُهُ من غير واو، وقال في الآية الأولى وَقالَ قَرِينُهُ [ق : ٢٣] بالواو العاطفة، وذلك لأن في الأول الإشارة وقعت إلى معنيين مجتمعين، وأن كل نفس في ذلك الوقت تجيء ومعها سائق، ويقول الشهيد ذلك القول، وفي الثاني لم يوجد هناك معنيان مجتمعان حتى يذكر بالواو، والفاء في قوله فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ [ق : ٢٦] لا يناسب قوله تعالى : قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ مناسبة مقتضية للعطف بالواو.
المسألة الثالثة : القائل هاهنا واحد، وقال رَبَّنا ولم يقل رب، وفي كثير من المواضع مع كون القائل واحدا، قال رب، كما في قوله قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف : ١٤٣] وقول نوح رَبِّ اغْفِرْ لِي [نوح : ٢٨] وقوله تعالى : قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ [يوسف : ٣٣] وقوله قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ [التحريم : ١١] إلى غير ذلك، وقوله تعالى : قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [ص : ٧٩] نقول في جميع تلك المواضع القائل طالب، ولا يحسن أن يقول الطالب : يا رب عمرني واخصصني وأعطني كذا، وإنما يقول : أعطنا لأن كونه ربا لا يناسب تخصيص الطالب، وأما هذا الموضع فموضع الهيبة والعظمة وعرض الحال دون الطلب فقال : رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ.
وقوله تعالى : وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ.
يعني أن ذلك لم يكن بإطغائه، وإنما كان ضالا متغلغلا في الضلال فطغى، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما الوجه في اتصاف الضلال بالبعيد؟ نقول الضال يكون أكثر ضلالا عن الطريق، فإذا تمادى في الضلال وبقي فيه مدة يبعد عن المقصد كثيرا، وإذا علم الضلال قصر في الطريق من قريب فلا يبعد عن المقصد كثيرا، فقوله ضَلالٍ بَعِيدٍ وصف المصدر بما يوصف به الفاعل، كما يقال كلام صادق وعيشة راضية أي ضلال ذو بعد، والضلال إذا بعد مداه وامتد الضال فيه يصير بينا ويظهر الضلال، لأن من حاد عن


الصفحة التالية
Icon