مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ١٦٨
له الهجوع قلنا ذكر الأمر العام وإرادة التخصيص حسن فنقول : رأيت حيوانا ناطقا فصيحا، وذكر الخاص وإرادة العام لا يحسن إلا في بعض المواضع فلا نقول رأيت فصيحا ناطقا حيوانا، إذا عرفت هذا فنقول في قوله تعالى : كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ذكر أمرا هو كالعام يحتمل أن يكون بعده : كانوا من الليل يسبحون ويستغفرون أو يسهرون أو غير ذلك، فإذا قال يهجعون فكأنه خصص ذلك الأمر العام المحتمل له ولغيره فلا إشكال فيه. ثم قال تعالى :
[سورة الذاريات (٥١) : آية ١٨]
وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨)
إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك وأخلص منه ويستغفرون من التقصير وهذا سيرة الكريم يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويستقله ويعتذر من التقصير، واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره ويمن به.
وفيه وجه آخر ألطف منه، وهو أنه تعالى لما بيّن أنهم يهجعون قليلا، والهجوع مقتضى الطبع، قال :
يَسْتَغْفِرُونَ أي من ذلك القدر من النوم القليل، وفيه لطيفة أخرى تنبيها في جواب سؤال، وهو أنه تعالى مدحهم بقلة الهجوع، ولم يمدحهم بكثرة السهر، وما قال : كانوا كثيرا من الليل ما يسهرون، فما الحكمة فيه، مع أن السهر هو الكلفة والاجتهاد لا الهجوع؟ نقول إشارة إلى أن نومهم عبادة، حيث مدحهم اللّه تعالى بكونهم هاجعين قليلا، وذلك الهجوع أورثهم لاشتغال بعبادة أخرى، وهو الاستغفار في وجوه الأسحار، ومنعهم من الإعجاب بأنفسهم والاستكبار. وفيه مباحث :
البحث الأول : في الباء فإنها استعملت للظرف هاهنا، وهي ليست للظرف، نقول قال بعض النحاة : إن حروف الجر ينوب بعضها مناب بعض، يقال في الظرف خرجت لعشر بقين وبالليل وفي شهر رمضان، فيستعمل اللام والباء وفي، وكذلك في المكان، نقول : أقمت بالمدينة كذا وفيها، ورأيته ببلدة كذا وفيها، فإن قيل ما التحقيق فيه؟ نقول الحروف لها معاني مختلفة، كما أن الأسماء والأفعال كذلك، غير أن الحروف غير مستقلة بإفادة المعنى، والاسم والفعل / مستقلان، لكن بين بعض الحروف وبعضها تناف وتباعد، كما في الأسماء والأفعال، فإن البيت والمسكن مختلفان متفاوتان، وكذلك سكن ومكث، ولا كذلك كل اسمين يفرض أو كل فعلين يوجد، إذا عرفت هذا فنقول : بين الباء واللام وفي مشاركة، أما الباء فإنها للإلصاق، والمتمكن في مكان ملتصق به متصل، وكذلك الفعل بالنسبة إلى الزمان، فإذا قال : سار بالنهار معناه ذهب ذهابا متصلا بالنهار، وكذا قوله تعالى : وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي استغفارا متصلا بالأسحار مقترنا بها، لأن الكائن فيها مقترنا بها، فإن قيل : فهل يكون بينهما في المعنى تفاوت؟ نقول نعم، وذلك لأن من قال : قمت بالليل واستغفرت بالأسحار أخبر عن الأمرين، وذلك أدل على وجود الفعل مع أول جزء من أجزاء الوقت من قوله قمت في الليل، لأنه يستدعي احتواش الزمان بالفعل وكذلك قول القائل : أقمت ببلد كذا، لا يفيد أنه كان محاطا بالبلد، وقوله أقمت فيها يدل على إحاطتها به، فإذن قول القائل : أقمت بالبلدة ودعوت بالأسحار، أعم من قوله : قمت فيه، لأن القائم فيه قائم به، والقائم به ليس قائما فيه من كل بد، إذا علمت هذا فقوله تعالى : وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ إشارة إلى أنهم لا يخلون وقتا عن العبادة، فإنهم بالليل لا يهجعون، ومع أول جزء من السحر يستغفرون، فيكون فيه بيان كونهم مستغفرين من غير أن يسبق منهم ذنب، لأنهم وقت الانتباه
في الأسحار لم يخلو الوقت للذنب، فإن قيل : زدنا بيانا فإن من الأزمان أزمانا لا تجعل ظروفا بالباء، فلا يقال خرجت بيوم


الصفحة التالية
Icon