مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ١٨٥
فكأنها كانت قاصدة إياهم فما تركت شيئا من تلك الأشياء إلا جعلته كالرميم مع أن الصر الريح الباردة والمكرر لا ينفك عن المعنى الذي في اللفظ من غير تكرير، تقول حث وحثحث وفيه ما في حث نقول فيه قولان أحدهما : أنها كانت باردة فكانت في أيام العجوز وهي ثمانية أيام من آخر شباط وأول آذار، والريح الباردة من شدة بردها تحرق الأشجار والثمار وغيرهما وتسودهما والثاني : أنها كانت حارة والصر هو الشديد لا البارد وبالشدة فسّر قوله تعالى : فِي صَرَّةٍ [الذاريات : ٢٩] أي في شدة من الحر.
البحث الرابع : في قوله تعالى : ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ لأن في قوله تعالى :
ما تَذَرُ نفي الترك مع إثبات الإتيان فكأنه تعالى قال تأتي على أشياء وما تتركها غير محرقة وقول القائل : ما أتى على شيء إلا جعله كذا يكون نفي الإتيان عما لم يجعله كذلك.
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٤٣]
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣)
قوله تعالى : وَفِي ثَمُودَ والبحث فيه وفي عاد هو ما تقدم في قوله تعالى : وَفِي مُوسى [الذاريات : ٣٨].
وقوله تعالى : إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ قال بعض المفسرين : المراد منه هو ما أمهلهم اللّه ثلاثة أيام بعد قتلهم الناقة وكانت في تلك الأيام تتغير ألوانهم فتصفر وجوههم وتسود، وهو ضعيف لأن قوله تعالى :
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ [الذاريات : ٤٤] بحرف الفاء دليل على أن العتو كان بعد قوله / تَمَتَّعُوا فإذن الظاهر أن المراد هو ما قدر اللّه للناس من الآجال، فما من أحد إلا وهو ممهل مدة الأجل يقول له تمتع إلى آخر أجلك فإن أحسنت فقد حصل لك التمتع في الدارين وإلا فما لك في الآخرة من نصيب. وقوله :
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٤٤]
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤)
فيه بحث وهو أن عتا يستعمل بعلى قال تعالى : أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا [مريم : ٦٩] وهاهنا استعمل مع كلمة عن فنقول فيه معنى الاستعتاء فحيث قال تعالى : عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ كان كقوله لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الأعراف : ٢٠٦] وحيث قال على كان كقول القائل فلان يتكبر علينا، والصاعقة فيه وجهان ذكرناهما هنا أحدها : أنها الواقعة والثاني : الصوت الشديد وقوله وَهُمْ يَنْظُرُونَ إشارة إلى أحد معنيين إما بمعنى تسليمهم وعدم قدرتهم على الدفع كما يقول القائل للمضروب يضربك فلان وأنت تنظر إشارة إلى أنه لا يدفع، وإما بمعنى أن العذاب أتاهم لا على غفلة بل أنذروا به من قبل بثلاثة أيام وانتظروه، ولو كان على غفلة لكان لمتوهم أن يتوهم أنهم أخذوا على غفلة أخذ العاجل المحتاج، كما يقول المبارز الشجاع أخبرتك بقصدي إياك فانتظرني.
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٤٥]
فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥)
وقوله تعالى : فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ يحتمل وجهين أحدهما : أنه لبيان عجزهم عن الهرب والفرار على سبيل المبالغة، فإن من لا يقدر على قيام كيف يمشي فضلا عن أن يهرب، وعلى هذا فيه لطائف لفظية إحداها : قوله تعالى : فَمَا اسْتَطاعُوا فإن الاستطاعة دون القدرة، لأن في الاستطاعة دلالة الطلب وهو ينبئ


الصفحة التالية
Icon