مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ١٩٠
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٥١]
وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١)
ثم قال تعالى : وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إتماما للتوحيد، وذلك لأن التوحيد بين التعطيل والتشريك، وطريقة التوحيد هي الطريقة، فالمعطل يقول لا إله أصلا، والمشرك يقول في الوجود آلهة، والموحد يقول قوله الاثنين باطل، نفي الواحد باطل، فقوله تعالى : فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات : ٥٠] أثبت وجود اللّه، ولما قال : وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ نفى الأكثر من الواحد فصح التوحيد بالآيتين، ولهذا قال مرتين : إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي في المقامين والموضعين، وقد ذكرنا مرارا أن المعطل إذا قال لا واجب يجعل الكل ممكنا، فإن كل موجود ممكن، ولكن اللّه في الحقيقة موجود، فقد جعله في تضاعيف قوله كالممكنات فقد أشرك، وجعل اللّه كغيره، والمشرك لما قال بأن غيره إله يلزم من قوله نفي كون الإله إلها لما ذكرنا في تقرير دلالة التمانع مع أنه لو كان فيهما آلهة إلا اللّه للزم عجز كل واحد، فلا يكون في الوجود إله أصلا، فيكون ناقيا للإلهية، فيكون معطلا، فالمعطل مشرك، والمشرك معطل، وكل واحد من الفريقين معترف بأن خصمه مبطل، لكنه هو على مذهب خصمه يقول إنه نفسه مبطل وهو لا يعلم، والحمد للّه الذي هدانا، وقوله وَلا تَجْعَلُوا فيه لطيفة، وهي أنه إشارة إلى أن الآلهة مجعولة، لا يقال فاللّه متخذ لقوله فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل : ٩] قلنا الجواب : عنه الظاهر، وقد سبق في قوله تعالى : وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً [مريم : ٨١].
ثم قال تعالى :
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٥٢]
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢)
والتفسير معلوم مما سبق، وقد ذكرنا أنه يدل على أن ذكر الحكايات للتسلية، غير أن فيه لطيفة واحدة لا نتركها، وهي أن هذه الآية دليل على أن كل رسول كذب، وحينئذ يرد عليه أسئلة الأول : هو أنه من الأنبياء من قرر دين النبي الذي كان قبله، وبقي القوم على ما كانوا عليه / كأنبياء بني إسرائيل مدة، وكيف وآدم لما أرسل لم يكذب الثاني : ما الحكمة في تقدير اللّه تكذيب الرسل، ولم يرسل رسولا مع كثرتهم واختلاف معجزاتهم بحيث يصدقه أهل زمانه؟ الثالث : قوله ما أَتَى... إِلَّا قالُوا دليل على أنهم كلهم قالوا ساحر، وليس كذلك لأنه ما من رسول إلا وآمن به قوم، وهم ما قالوا ذلك والجواب عن الأول : هو أن نقول، أما المقرر فلا نسلم أنه رسول، بل هو نبي على دين رسول، ومن كذب رسوله فهو مكذبه أيضا ضرورة.
وعن الثاني : هو أن اللّه لا يرسل إلا عند حاجة الخلق، وذلك عند ظهور الكفار في العلم، ولا يظهر الكفر إلا عند كثرة الجهل، ثم إن اللّه تعالى لا يرسل رسولا مع كون الإيمان به ضروريا، وإلا لكان الإيمان به إيمان اليأس فلا يقبل، والجاهل إذا لم يكن المبين له في غاية الوضوح لا يقبله فيبقى في ورطة الضلالة، فهذا قدر لزم بقضاء اللّه على الخلق على هذا الوجه، وقد ذكرنا مرة أخرى أن بعض الناس يقول : كل ما هو قضاء اللّه فهو خير، والشر في القدر، فاللّه قضى بأن النار فيها مصلحة للناس لأنها نور، ويجعلونها متاعا في الأسفار وغيرها كما ذكر اللَّه، والماء فيه مصلحة الشرب، لكن النار إنما تتم مصلحتها بالحرارة البالغة والماء بالسيلان القوي، وكونهما كذلك يلزمهما بإجراء اللّه عادته عليهما أن يحرق ثوب الفقير، ويغرق شاة المسكين، فالمنفعة في القضاء والمضرة في القدر، وهذا الكلام له غور، والسنة أن نقول (يفعل اللّه ما يشاء، ويحكم ما يريد) وعن الثالث : أن ذلك ليس بعام، فإنه لم يقل إلا قال كلهم، وإنما قال : إِلَّا قالُوا ولما كان كثير منهم، بل أكثرهم قائلين به، قال اللّه تعالى : إِلَّا


الصفحة التالية
Icon