مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ١٩٥
طلب فعل منهم غير التعظيم؟ نقول لما عمم في المطلب الأول اكتفى بقوله مِنْ رِزْقٍ فإنه يفيد العموم، وأشار إلى التعظيم فذكر الإطعام، وذلك لأن أدنى درجات الأفعال أن تستعين السيد بعبده أو جاريته في تهيئة أمر الطعام، ونفي الأدنى يستتبعه نفي الأعلى بطريق الأولى فصار كأنه تعالى قال : ما أريد منهم من عين ولا عمل.
المسألة الخامسة : على ما ذكرت لا تنحصر المطالب فيما ذكره، لأن السيد قد يشتري لعبد لا لطلب عمل منه ولا لطلب رزق ولا للتعظيم، بل تشتريه للتجارة والربح فيه، نقول عموم قوله ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ يتناول ذلك فإن من اشترى عبدا ليتجر فيه فقد طلب منه رزقا.
المسألة السادسة : ما أريد في العربية يفيد النفي في الحال، والتخصيص بالذكر يوهم نفي ما عدا المذكور، لكن اللّه تعالى لا يريد منهم رزقا لا في الحال ولا في الاستقبال، فلم لم يقل لا أريد منهم من رزق ولا أريد؟ نقول ما للنفي في الحال، ولا للنفي في الاستقبال، فالقائل إذا قال فلان لا يفعل هذا الفعل وهو في الفعل لا يصدق، لكنه إذا ترك مع فراغه من قوله يصدق القائل، ولو قال ما يفعل لما صدق فيما ذكرنا من الصورة، مثاله إذا كان الإنسان في الصلاة وقال قائل إنه ما يصلي فانظر إليه فإذا كان نظر إليه الناظر وقد قطع صلاة نفسه صح أن يقول إنك لا تصلي، ولو قال القائل إنه ما يصلي في تلك الحالة لما صدق، فإذا علمت هذا فكل واحد من اللفظين للنافية فيه خصوص لكن النفي في الحال أولى لأن المراد من الحال الدنيا والاستقبال هو في أمر الآخرة فالدنيا وأمورها كلها حالية فقوله ما أُرِيدُ أي في هذه الحالة الراهنة التي هي ساعة الدنيا، ومن المعلوم أن العبد بعد موته لا يصلح أن يطلب منه رزق أو عمل فكان قوله ما أُرِيدُ مفيدا للنفي العام، ولو قال لا أريد لما أفاد ذلك. ثم قال تعالى :
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٥٨]
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨)
تعليلا لما تقدم من الأمرين، فقوله هُوَ الرَّزَّاقُ تعليل لعدم طلب الرزق وقوله تعالى : ذُو الْقُوَّةِ تعليل لعدم طلب العمل، لأن من يطلب رزقا يكون فقيرا محتاجا ومن يطلب عملا من غيره يكون عاجزا لا قوة له، فصار كأنه يقول ما أريد منهم من رزق فإني أنا الرزاق ولا عمل فإني قوي وفيه مباحث الأول : قال : ما أُرِيدُ ولم يقل إني رزاق بل قال على الحكاية عن الغائب إِنَّ اللَّهَ فما الحكمة فيه؟ نقول
قد روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قرأ (إني أنا الرزاق)
على ما ذكرت وأما القراءة المشهورة ففيها وجوه الأول : أن يكون المعنى قل يا محمد إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ الثاني : أن يكون ذلك من باب الالتفات والرجوع من التكلم عن النفس إلى التكلم عن الغائب، وفيه هاهنا فائدة وهي أن اسم اللّه يفيد كونه رزاقا وذلك لأن الإله بمعنى المعبود كما ذكرنا مرارا وتمسكنا بقوله تعالى : وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف : ١٢٧] أي معبوديك وإذ كان اللّه هو المعبود ورزق العبد استعمله من غير الكسب إذ رزقه على السيد وهاهنا لما قال : ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فقد بيّن أنه استخلصهم لنفسه وعبادته وكان عليه رزقهم فقال تعالى : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ بلفظ اللّه الدال على كونه رزاقا، ولو
قال إني أنا الرزاق
لحصلت المناسبة التي ذكرت ولكن لا يحصل ما ذكرنا الثالث : أن يكون قل مضمرا عند قوله تعالى :
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ تقديره قل يا محمد ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ فيكون بمعنى قوله قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الفرقان : ٥٧] ويكون على هذا قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ من قول النبي صلى اللّه عليه وسلم ولم يقل القوي، بل


الصفحة التالية
Icon