مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ٢١٦
أنفسهم دليل صدقه لأن قوله في ثلاثة أشياء في التوحيد والحشر والرسالة ففي أنفسهم ما يعلم به صدقه، وبيانه هو أنهم خلقوا وذلك دليل التوحيد لما بينا أن في كل شيء له آية، تدل على أنه واحد، وقد بينا وجهه مرارا فلا نعيده.
وأما الحشر فلأن الخلق الأول دليل على جواز الخلق الثاني وإمكانه، ويدل على ما ذكرنا أن اللَّه تعالى ختم الاستفهامات بقوله أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الطور : ٤٣]. «١»
المسألة الثانية : إذا كان الأمر على ما ذكرت فلم حذف قوله أما خلقوا؟ نقول : لظهور انتفاء ذلك ظهورا لا يبقى معه للخلاف وجه، فإن قيل فلم لم يصدر بقوله أما خلقوا «٢» ويقول أم خلقوا من غير شي ء؟ نقول ليعلم أن قبل هذا أمرا منفيا ظاهرا، وهذا المذكور قريب منه في ظهور البطلان فإن قيل قوله أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أيضا ظاهر البطلان، لأنهم علموا أنهم مخلوقون من تراب وماء ونطفة، نقول الأول أظهر في البطلان لأن كونهم غير مخلوقين أمر يكون مدعيه منكرا للضرورة فمنكره منكر لأمر ضروري.
المسألة الثالثة : ما المراد من قوله تعالى : مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ نقول فيه وجوه المنقول منها أنهم / خلقوا من غير خالق وقيل إنهم خلقوا لا لشيء عبثا، وقيل إنهم خلقوا من غير أب وأم، ويحتمل أن يقال أم خلقوا من غير شيء، أي ألم يخلقوا من تراب أو من ماء، ودليله قوله تعالى : أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [المرسلات : ٢٠] ويحتمل أن يقال الاستفهام الثاني ليس بمعنى النفي بل هو بمعنى الإثبات قال اللَّه تعالى : أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ [الواقعة : ٥٩] وأَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة : ٦٤] أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ [الواقعة : ٧٢] كل ذلك في الأول منفي وفي الثاني مثبت كذلك هاهنا قال اللَّه تعالى : أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أي الصادق هو هذا الثاني حينئذ، وهذا كما في قوله تعالى : هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الإنسان : ١] فإن قيل كيف يكون ذلك الإثبات والآدمي خلق من تراب؟ نقول والتراب خلق من غير شيء، فالإنسان إذا نظرت إلى خلقه وأسندت النظر إلى ابتداء أمره وجدته خلق من غير شيء أو نقول المراد أم خلقوا من غير شيء مذكور أو معتبر وهو الماء المهين.
المسألة الرابعة : ما الوجه في ذكر الأمور الثلاثة التي في الآية؟ نقول هي أمور مرتبة كل واحد منها يمنع القول بالوحدانية والحشر فاستفهم بها، وقال أما خلقوا أصلا، ولذلك ينكرون القول بالتوحيد لانتفاء الإيجاد وهو الخلق، وينكرون الحشر لانتفاء الخلق الأول أم خلقوا من غير شيء، أي أم يقولون بأنهم خلقوا لا لشيء فلا إعادة، كما قال : أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً [المؤمنون : ١١٥]. وعلى قولنا إن المراد خلقوا لا من تراب ولا من ماء فله وجه ظاهر، وهو أن الخلق إذا لم يكن من شيء بل يكون إيداعيا يخفي كونه مخلوقا على بعض الأغبياء، ولهذا قال بعضهم السماء رفع اتفاقا ووجد من غير خالق وأما الإنسان الذي يكون أولا نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحما وعظما لا يتمكن أحد من إنكاره بعد مشاهدة تغير أحواله فقال تعالى : أَمْ خُلِقُوا بحيث يخفى عليهم وجه خلقهم بأن خلقوا ابتداء من غير سبق حالة عليهم يكونون فيها ترابا ولا ماء ولا نطفة

(١) ترك المصنف الكلام هنا على الثالث وهو الرسالة سهوا أو اعتمادا على ما ذكره فيما سلف من التفسير ولأنه إذا ثبت أمر المبدأ والمعاد سهل إثبات الرسالة. [.....]
(٢) يلاحظ أن هذا السؤال قريب من الذي قبله في نفس المسألة الثانية.


الصفحة التالية
Icon