مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ٢١٧
ليس كذلك بل هم كانوا شيئا من تلك الأشياء خلقوا منه خلقا، فما خلقوا من غير شيء حتى ينكروا الوحدانية ولهذا قال تعالى : يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ [الزمر : ٦] ولهذا أكثر اللَّه من قوله خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ [الإنسان : ٢] وقوله أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [المرسلات : ٢٠] يتناول الأمرين المذكورين في هذا الموضع لأن قوله أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ يحتمل أن يكون نفي المجموع بنفي الخلق فيكون كأنه قال : أخلقتم لا من ماء، وعلى قول من قال المراد منه أم خلقوا من غير شيء، أي من غير خالق ففيه ترتيب حسن أيضا وذلك لأن نفي الصانع، إما أن يكون بنفي كون العالم مخلوقا فلا يكون ممكنا، وإما أن يكون ممكنا لكن الممكن لا يكون محتاجا فيقع الممكن من غير مؤثر وكلاهما محال. وأما قوله تعالى : أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ فمعناه أهم الخالقون للخلق فيعجز الخالق بكثرة العمل، فإن دأب الإنسان أنه يعيا بالخلق، فما قولهم أما خلقوا فلا يثبت لهم إله ألبتة، أم خلقوا وخفي عليهم وجه الخلق أم جعلوا الخالق مثلهم فنسبوا إليه العجز، ومثل قوله تعالى : أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ [ق : ١٥] هذا بالنسبة إلى الحشر وأما بالنسبة إلى التوحيد فهو رد عليهم حيث قالوا الأمور مختلفة واختلاف الآثار يدل على اختلاف المؤثرات وقالوا أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص : ٥] فقال تعالى : أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ حيث لا يقدر / الخباز على الخياطة والخياط على البناء وكل واحد يشغله شأن عن شأن. ثم قال تعالى :
[سورة الطور (٥٢) : آية ٣٦]
أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦)
وفيه وجوه : أحدها : ما اختاره الزمخشري وهو أنهم لا يوقنون بأنهم خلقوا وهو حينئذ في معنى قوله تعالى : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان : ٢٥] أي هم معترفون بأنه خلق اللَّه وليس خلق أنفسهم وثانيها : المراد بل لا يوقنون بأن اللَّه واحد وتقديره ليس الأمر كذلك أي ما خلقوا وإنما لا يوقنون بوحدة اللَّه وثالثها : لا يوقنون أصلا من غير ذكر مفعول يقال فلان ليس بمؤمن وفلان ليس بكافر لبيان مذهبه وإن لم ينو مفعولا، وكذلك قول القائل فلان يؤذي ويؤدي لبيان ما فيه لا مع القصد إلى ذكر مفعول، وحينئذ يكون تقديره أنهم ما خلقوا السموات والأرض ولا يوقنون بهذه الدلائل، بل لا يوقنون أصلا وإن جئتهم بكل آية، يدل عليه قوله تعالى بعد ذلك وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ [الطور : ٤٤] وهذه الآية إشارة إلى دليل الآفاق، وقوله من قبل أَمْ خُلِقُوا [الطور : ٣٥] دليل الأنفس. ثم قال تعالى :
[سورة الطور (٥٢) : آية ٣٧]
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧)
وفيه وجوه أحدها : المراد من الخزائن خزائن الرحمة ثانيها : خزائن الغيب ثالثها : أنه إشارة إلى الأسرار الإلهية المخفية عن الأعيان رابعها : خزائن المخلوقات التي لم يرها الإنسان ولم يسمع بها، وهذه الوجوه الأول والثاني منقول، والثالث والرابع مستنبط، وقوله تعالى : أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ تتمة للرد عليهم، وذلك لأنه لما قال : أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ إشارة إلى أنهم ليسوا بخزنة [رحمة] اللَّه فيعلموا خزائن اللَّه، وليس بمجرد انتفاء كونهم خزنة ينتفي العلم لجواز أن يكون مشرفا على الخزانة، فإن العلم بالخزائن عند الخازن والكاتب في الخزانة، فقال لستم بخزنة ولا بكتبة الخزانة المسلطين عليها، ولا يبعد تفسير المسيطرين بكتبة الخزانة، لأن التركيب يدل على السطر وهو يستعمل في الكتاب، وقيل المسيطر المسلط وقرئ بالصاد، وكذلك في كثير من


الصفحة التالية
Icon