مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ٢٣٦
الكتاب كأنه يقول، ما القرآن إلا كتاب ويوحى بمعنى يرسل، ويحتمل على هذا أيضا أن يقال هو مصدر، أي ما القرآن إلا إرسال وإلهام، بمعنى المفعول أي مرسل، وإن قلنا المراد من قوله إِنْ هُوَ قوله وكلامه فالوحي حينئذ هو الإلهام ملهم من اللّه، أو مرسل وفيه مباحث :
البحث الأول : الظاهر خلاف ما هو المشهور عند بعض المفسرين وهو أن النبي صلى اللّه عليه وسلم ما كان ينطق إلا عن وحي، ولا حجة لمن توهم هذا في الآية، لأن قوله تعالى : إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى إن كان ضمير القرآن فظاهر وإن كان ضميرا عائدا إلى قوله فالمراد من قوله هو القول الذي كانوا يقولون فيه إنه قول شاعر، ورد اللّه عليهم فقال : ولا بقول شاعر وذلك القول هو القرآن، وإن قلنا بما قالوا به فينبغي أن يفسر الوحي بالإلهام.
البحث الثاني : هذا يدل على أنه صلى اللّه عليه وسلم لم يجتهد وهو خلاف الظاهر، فإنه في الحروب اجتهد وحرم ما قال اللّه لم يحرم وأذن لمن قال تعالى : عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة : ٤٣]، نقول على ما ثبت لا تدل الآية عليه.
البحث الثالث :(يوحى) يحتمل أن يكون من وحى يوحي ويحتمل أن يكون من أوحى يوحي، تقول عدم يعدم، وأعدم يعدم وكذلك علم يعلم وأعلم يعلم فنقول يوحى من أوحى لا من وحى، وإن كان وحى وأوحى كلاهما جاء بمعنى ولكن اللّه في القرآن عند ذكر المصدر لم يذكر / الإيحاء الذي هو مصدر أوحى، وعند ذكر الفعل لم يذكر وحي، الذي مصدره وحى، بل قال عند ذكر المصدر الوحي، وقال عند ذكر الفعل أوحى وكذلك القول في أحب وحب فإن حب وأحب بمعنى واحد، واللّه تعالى عند ذكر المصدر لم يذكر في القرآن الإحباب، وذكر الحب قال أَشَدُّ حُبًّا «١» [البقرة : ١٦٥] وعند الفعل لم يقل حبه اللّه بل قال : يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة : ٥٤]، وقال : أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ [الحجرات : ١٢] وقال : لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران : ٩٢] إلى غير ذلك وفيه سر من علم الصرف وهو أن المصدر والفعل الماضي الثلاثي فيهما خلاف قال بعض علماء الصرف المصدر مشتق من الفعل الماضي، والماضي هو الأصل، والدليل عليه وجهان، لفظي ومعنوي :
أما اللفظي فإنهم يقولون مصدر فعل يفعل إذا كان متعديا فعلا بسكون العين، وإذا كان لازما فعول في الأكثر، ولا يقولون الفعل الماضي من فعول فعلى، وهذا دليل ما ذكرنا.
وأما المعنوي فلأن ما يوجد من الأمور لا يوجد إلا وهو خاص وفي ضمنه العام مثاله الإنسان الذي يوجد ويتحقق يكون زيدا أن عمرا أو غيرهما، ويكون في ضمنه أنه هندي أو تركي وفي ضمن ذلك أنه حيوان وناطق، ولا يوجد أولا إنسان ثم يصير تركيا ثم يصير زيدا أو عمرا.
إذا علمت هذا فالفعل الذي يتحقق لا ينفك من أن يكون ماضيا أو مستقبلا وفي ضمنه أنه فعل مع قطع النظر عن مضيه واستقباله مثاله الضرب إذا وجد فأما أن يكون قد مضى أو بعد لم يمض، والأول ماض والثاني حاضر أو مستقبل، ولا يوجد الضرب من حيث إنه ضرب خاليا عن المضي والحضور والاستقبال، غير أن العاقل يدرك من فعل وهو يفعل الآن وسيفعل غدا أمرا مشتركا فيسميه فعلا، كذلك يدرك في ضرب وهو يضرب

(١) في تفسير الرازي المطبوع (أو أشد حبا) وهو خطأ والصواب ما أثبتناه من المعجم المفهرس.


الصفحة التالية
Icon