مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ٢٣٩
الأعلى والأفق الفارق بين المنزلتين، فإن قيل ما بعده يدل على خلاف ما تذهب إليه، فإن قوله ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى [النجم : ٨] إلى غير ذلك، وقوله تعالى : وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى [النجم : ١٤] كل ذلك يدل على خلاف ما ذكرته؟ نقول سنبين موافقته لما / ذكرنا إن شاء اللّه في مواضعه عند ذكر تفسيره، فإن قيل الأحاديث تدل على خلاف ما ذكرته حيث
ورد في الأخبار أن جبريل عليه السلام أرى النبي صلى اللّه عليه وسلم نفسه على صورته فسد المشرق
فنقول نحن ما قلنا إنه لم يكن وليس في الحديث أن اللّه تعالى أراد بهذه الآية تلك الحكاية حتى يلزم مخالفة الحديث، وإنما نقول أن جبريل أرى النبي صلى اللّه عليه وسلم نفسه مرتين وبسط جناحيه وقد ستر الجانب الشرقي وسده، لكن الآية لم ترد لبيان ذلك. ثم قال تعالى :
[سورة النجم (٥٣) : آية ٨]
ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨)
وفيه وجوه مشهورة أحدها : أن جبريل دنا من النبي صلى اللّه عليه وسلم أي بعد ما مد جناحه وهو بالأفق عاد إلى الصورة التي كان يعتاد النزول عليها وقرب من النبي صلى اللّه عليه وسلم وعلى هذا ففي فَتَدَلَّى ثلاثة وجوه أحدها : فيه تقديم وتأخير تقديره ثم تدلى من الأفق الأعلى فدنا من النبي صلى اللّه عليه وسلم الثاني : الدنو والتدلي بمعنى واحد كأنه قال دنا فقرب الثالث : دنا أي قصد القرب من محمد صلى اللّه عليه وسلم وتحرك عن المكان الذي كان فيه فتدلى فنزل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم الثاني :
على ما ذكرنا من الوجه الأخير في قوله وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى [النجم : ٧] أن محمدا دنا من الخلق والأمة ولأن لهم وصار كواحد منهم فَتَدَلَّى أي فتدلى إليهم بالقول اللين والدعاء الرفيق فقال : أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [فصلت : ٦] وعلى هذا ففي الكلام كما لان كأنه تعالى قال إلا وحي يوحي جبريل على محمد، فاستوى محمد وكمل فدنا من الخلق بعد علوه وتدلى إليهم وبلغ الرسالة الثالث : وهو ضعيف سخيف، وهو أن المراد منه هو ربه تعالى وهو مذهب القائلين بالجهة والمكان، اللّهم إلا أن يريد القرب بالمنزلة، وعلى هذا يكون فيه ما
في قوله صلى اللّه عليه وسلم حكاية عن ربه تعالى «من تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إليّ ذراعا تقربت إليه باعا، ومن مشى إليّ أتيته هرولة»
إشارة إلى المعنى المجازي، وهاهنا لما بيّن أن النبي صلى اللّه عليه وسلم استوى وعلا في المنزلة العقلية لا في المكان الحسي قال وقرب اللّه منه تحقيقا لما
في قوله «من تقرب إليّ ذراعا تقربت إليه باعا».
ثم قال تعالى :
[سورة النجم (٥٣) : آية ٩]
فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩)
أي بين جبرائيل ومحمد عليهما السلام مقدار قوسين أو أقل، ورد هذا على استعمال العرب وعادتهم، فإن الأميرين منهم أو الكبيرين إذا اصطلحا وتعاهدا خرجا بقوسيهما ووتر كل واحد منهما طرف قوسه بطرق قوس صاحبه ومن دونهما من الرعية يكون كفه بكفه فينهيان باعيهما، ولذلك تسمى مسايعة، وعلى هذا ففيه لطيفة وهي أن قوله قابَ قَوْسَيْنِ على جعل كونهما كبيرين، وقوله أَوْ أَدْنى لفضل أحدهما على الآخر، فإن الأمير إذا بايعه الرعية لا يكون مع المبايع قوس فيصافحه الأمير فكأنه تعالى أخبر أنهما كأميرين كبيرين فكان بينهما مقدار قوسين أو كان جبرائيل عليه السلام سفيرا بين اللّه تعالى / ومحمد صلى اللّه عليه وسلم فكان كالتبع لمحمد صلى اللّه عليه وسلم فصار كالمبايع الذي يمد الباع لا القوس، هذا على قول من يفضل النبي صلى اللّه عليه وسلم على جبرائيل عليه السلام وهو مذهب أهل السنة إلا قليلا منهم إذ كان جبرائيل رسولا من اللّه


الصفحة التالية
Icon