مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ٢٥٢
الحال والاستقبال إشارة إلى أنهم ليسوا بثابتين على ضلال واحد وما هوت أنفسهم في الماضي شيئا من أنواع العبادة فالتزموا به وداموا عليه بل كل يوم هم يستخرجون عبادة، وإذا انكسرت أصنامهم اليوم أتوا بغيرها غدا ويغيرون وضع عبادتهم بمقتضى شهوتهم اليوم ثانيهما : أنها خبرية تقديره، والذي تشتهيه أنفسهم والفرق بين المصدرية والخبرية أن المتبع على الأول الهوى وعلى الثاني مقتضى الهوى كما إذا قلت أعجبني مصنوعك.
المسألة الرابعة : كيف قال : وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ بلفظ الجمع مع أنهم لا يتبعون ما تهواه كل نفس فإن من النفوس ما لا تهوى ما تهواه غيرها؟ نقول هو من باب مقابلة الجمع بالجمع معناه اتبع كل واحد منهم ما تهواه نفسه يقال خرج الناس بأهليهم أي كل واحد بأهله لا كل واحد بأهل الجمع.
المسألة الخامسة : بيّن لنا معنى الكلام جملة، نقول قوله تعالى : إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ أمران مذكوران يحتمل أن يكون ذكرهما لأمرين تقدير بين يتبعون الظن في الاعتقاد ويتبعون ما تهوى الأنفس في العمل والعبادة وكلاهما فاسد، لأن الاعتقاد ينبغي أن يكون مبناه على اليقين، وكيف يجوز اتباع الظن في الأمر العظيم، وكلما كان الأمر أشرف وأخطر كان الاحتياط فيه أوجب وأحذر، وأما العمل فالعبادة مخالفة الهوى فكيف تنبئ على متابعته، ويحتمل أن يكون في أمر واحد على طريقة النزول درجة درجة فقال :
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ أي وما دون الظن لأن القرونة تهوى ما لا يظن به خير وقوله تعالى :
وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى إشارة / إلى أنهم على حال لا يعتد به لأن اليقين مقدور عليه وتحقق بمجيء الرسل والهدى فيه وجوه ثلاثة الأولى : القرآن الثاني : الرسل الثالث : المعجزات. ثم قال تعالى :
[سورة النجم (٥٣) : آية ٢٤]
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤)
المشهور أن أم منقطعة معناه : أللإنسان ما اختاره واشتهاه؟ وفي ما تَمَنَّى وجوه الأولى : الشفاعة تمنوها وليس لهم شفاعة الثاني : قولهم وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فصلت : ٥٠] الثالث :
قول الوليد بن المغيرة لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً [مريم : ٧٧] الرابع : تمنى جماعة أن يكونوا أنبياء ولم تحصل لهم تلك الدرجة الرفيعة، فإن قلت هل يمكن أن تكون أم هاهنا متصلة؟ نقول نعم والجملة الأولى حينئذ تحتمل وجهين أحدهما : أنها مذكورة في قوله تعالى : أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى [النجم : ٢١] كأنه قال ألكم الذكر وله الأنثى على الحقيقة أو تجعلون لأنفسكم ما تشتهون وتتمنون وعلى هذا فقوله تلك إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النجم : ٢٢] وغيرها جمل اعترضت بين كلامين متصلين ثانيهما : أنها محذوفة وتقرير ذلك هو أنا بينا أن قوله أَفَرَأَيْتُمُ [النجم : ١٩] لبيان فساد قولهم، والإشارة إلى ظهور ذلك من غير دليل، كما إذا قال قائل فلان يصلح للملك فيقول آخر لثالث، أما رأيت هذا الذي يقوله فلان ولا يذكر أنه لا يصلح للملك، ويكون مراده ذلك فيذكره وحده منبها على عدم صلاحه، فههنا قال تعالى : أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى أي يستحقان العبادة أم للإنسان أن يعبد ما يشتهيه طبعه وإن لم يكن يستحق العبادة، وعلى هذا فقوله أم للإنسان أي هل له أن يعبد بالتمني والاشتهاء، ويؤيد هذا قوله تعالى : وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ أي عبدتم بهوى أنفسكم ما لا يستحق العبادة فهل لكم ذلك. ثم قال تعالى :
[سورة النجم (٥٣) : آية ٢٥]
فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥)


الصفحة التالية
Icon