مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ٤٤
من الهلاك بالسبب العام، قال تعالى : ذلِكَ أي الإهلاك والهوان بسبب أن اللّه تعالى ناصر المؤمنين، والكافرون اتخذوا آلهة لا تنفع ولا تضر، وتركوا اللّه فلا ناصر لهم ولا شك أن من ينصره اللّه تعالى يقدر على القتل والأسر وإن كان له ألف ناصر فضلا عن أن يكون لا ناصر لهم، فإن قيل كيف الجمع بين قوله تعالى : لا مَوْلى لَهُمْ وبين قوله مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [الأنعام : ٦٢] نقول المولى ورد بمعنى السيد والرب والناصر فحيث قال : لا مَوْلى لَهُمْ أراد لا ناصر لهم، وحيث قال : مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أي ربهم ومالكهم، كما قال : يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء : ١] وقال : رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشعراء : ٢٦] / وفي الكلام تباين عظيم بين الكافر والمؤمن لأن المؤمن ينصره اللّه وهو خير الناصرين، والكافر لا مولى له بصيغة نافية للجنس، فليس له ناصر وإنه شر الناصرين ثم قال تعالى :
[سورة محمد (٤٧) : آية ١٢]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢)
لما بيّن اللّه تعالى حال المؤمنين والكافرين في الدنيا بيّن حالهم في الآخرة وقال إنه يدخل المؤمن الجنة والكافر النار وفيه مسائل :
المسألة الأولى : كثيرا ما يقتصر اللّه على ذكر الأنهار في وصف الجنة لأن الأنهار يتبعها الأشجار والأشجار تتبعها الثمار ولأنه سبب حياة العالم، والنار سبب الإعدام، وللمؤمن الماء ينظر إليه وينتفع به، وللكافر النار يتقلب فيها ويتضرر بها.
المسألة الثانية : ذكرنا مرارا أن من في قوله مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يحتمل أن يكون صلة معناه تجري تحتها الأنهار، ويحتمل أن يكون المراد أن ماءها منها لا يجري إليها من موضع آخر، فيقال هذا النهر منبعه من أين؟
يقال من عين كذا من تحت جبل كذا.
المسألة الثالثة : قال : وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ خصهم بالذكر مع أن المؤمن أيضا له التمتع بالدنيا وطيباتها، نقول من يكون له ملك عظيم ويملك شيئا يسيرا أيضا لا يذكر إلا بالملك العظيم، يقال في حق الملك العظيم صاحب الضيعة الفلانية ومن لا يملك إلا شيئا يسيرا فلا يذكر إلا به، فالمؤمن له ملك الجنة فمتاع الدنيا لا يلتفت إليه في حقه والكافر ليس له إلا الدنيا، ووجه آخر : الدنيا للمؤمن سجن كيف كان، ومن يأكل في السجن لا يقال إنه يتمتع، فإن قيل كيف تكون الدنيا سجنا مع ما فيها من الطيبات؟ نقول للمؤمن في الآخرة طيبات معدة وإخوان مكرمون نسبتها ونسبتهم إلى الدنيا ومن فيها تتبين بمثال، وهو أن من يكون له بستان فيه من كل الثمرات الطيبة في غاية اللذة وأنهار جارية في غاية الصفاء ودور وغرف في غاية الرفعة وأولاده فيها، وهو قد غاب عنهم سنين ثم توجه إليهم وهم فيها، فلما قرب منهم عوق في أجمة فيها من بعض الثمار العفصة والمياه الكدرة، وفيها سباع وحشرات كثيرة، فهل يكون حاله فيها كحال مسجون في بئر مظلمة وفي بيت خراب أم لا؟ وهل يجوز أن يقال له اترك ما هو لك وتعلل بهذه الثمار وهذه الأنهار أم لا؟. / كذلك حال المؤمن، وأما الكافر فحاله كحال من يقدم إلى القتل فيصبر عليه أياما في مثل تلك الأجمة التي ذكرناها يكون في جنة، ونسبة الدنيا إلى الجنة والنار دون ما ذكرنا من المثال، لكنه ينبئ ذا البال، عن حقيقة الحال.


الصفحة التالية
Icon