مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ٤٩
هو خالد في النار ومعذب فيها لأن المشابهة تنافي المخالفة، وأما إذا لم يكن كذلك كما في هذا الموضع، فإن قوله سُقُوا ماءً جملة غير مشابهة لقوله هُوَ خالِدٌ وقوله تعالى : وَسُقُوا ماءً حَمِيماً بيان لمخالفتهم في سائر أحوال أهل الجنة فلهم أنهار من ماء غير آسن، ولهم ماء حميم، فإن قيل المشابهة الإنكارية بالمخالفة على ما ثبت، وقد ذكرت البعض وقلت بأن قوله عَلى بَيِّنَةٍ في مقابلة زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ومِنْ رَبِّهِ في مقابلة قوله وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ والجنة في مقابلة النار في قوله خالِدٌ فِي النَّارِ والماء الحميم في مقابلة الأنهار، فأين ما يقابل قوله وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ فنقول تقطع الأمعاء في مقابلة مغفرة لأنا بينا على أحد الوجوه أن المغفرة التي في الجنة هي تعرية «١» أكل الثمرات عما يلزمه من قضاء الحاجة والأمراض وغيرها، كأنه قال : للمؤمن أكل وشرب مطهر طاهر لا يجتمع في جوفهم فيؤذيهم ويحوجهم إلى قضاء حاجة، وللكافر ماء حميم في أول ما يصل إلى جوفهم يقطع أمعاءهم ويشتهون خروجه من جوفهم، وأما الثمار فلم يذكر مقابلها، لأن في الجنة زيادة مذكورة فحققها بذكر أمر زائد.
المسألة الرابعة : الماء الحار يقطع أمعاءهم لأمر آخر غير الحرارة، وهي الحدة التي تكون في السموم المدوفة «٢»، وإلا فمجرد الحرارة لا يقطع، فإن قيل قوله تعالى : فَقَطَّعَ بالفاء يقتضي أن يكون القطع بما ذكر، نقول نعم، لكنه لا يقتضي أن يقال : يقطع، لأنه ماء حميم فحسب، بل ماء حميم مخصوص يقطع. ثم قال تعالى :
[سورة محمد (٤٧) : آية ١٦]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦)
لما بيّن اللّه تعالى حال الكافر ذكر حال المنافق بأنه من الكفار، وقوله وَمِنْهُمْ يحتمل أن يكون الضمير عائدا إلى الناس، كما قال تعالى في سورة البقرة وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة : ٨] بعد ذكر الكفار، ويحتمل أن يكون راجعا إلى أهل مكة، لأن ذكرهم سبق في قوله تعالى : هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ [محمد : ١٣] ويحتمل أن يكون راجعا إلى معنى قوله كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ / وَسُقُوا ماءً حَمِيماً [محمد : ١٥] يعني ومن الخالدين في النار قوم يستمعون إليك، وقوله حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ على ما ذكرنا حمل على المعنى الذي هو الجمع، ويستمع حمل على اللفظ، وقد سبق التحقيق فيه، وقوله حَتَّى للعطف في قول المفسرين، وعلى هذا فالعطف بحتى لا يحسن إلا إذا كان المعطوف جزءا من المعطوف عليه إما أعلاه أو دونه، كقول القائل : أكرمني الناس حتى الملك، وجاء الحاج حتى المشاة، وفي الجملة ينبغي أن يكون المعطوف عليه من حيث المعنى، ولا يشترط في العطف بالواو ذلك، فيجوز أن تقول في الواو : جاء الحاج وما علمت، ولا يجوز مثل ذلك في حتى، إذا علمت هذا فوجه التعلق هاهنا هو أن قوله حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ يفيد معنى زائدا في الاستماع كأنه يقول : يستمعون استماعا بالغا جيدا، لأنهم يستمعون وإذا خرجوا يستعيدون من العلماء كما يفعله المجتهد في التعلم الطالب للتفهم، فإن قلت فعلى هذا

(١) في المطبوع الأميري (تعربة) بالباء الموحدة.
(٢) فيه أيضا (المدونة) بالنون وكلاهما تصحيف ومعنى المدوفة المعدة للشرب. [.....]


الصفحة التالية
Icon