مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ٥٧
بمرسل، وإنما هو كاذب، ولكن لا نوافقكم في إنكار الرسالة والحشر والإشراك باللّه من الأصنام، ومن لم يؤمن بمحمد صلى اللّه عليه وسلم فهو كافر، وإن آمن بغيره. لا بل من لم يؤمن بمحمد صلى اللّه عليه وسلم، لا يؤمن باللّه ولا برسله ولا بالحشر، لأن اللّه كما أخبر عن الحشر وهو جائز، أخبر عن نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام، وهي جائزة فإذا لم يصدق اللّه في شيء لا ينفي الكذب بقول اللّه في غيره، فلا يكون مصدقا موقنا بالحشر، ولا برسالة أحد من الأنبياء، لأن طريق معرفتهم واحد، والمراد من الذين كرهوا ما نزل اللّه هم المشركون والمنافقون، وقيل المراد اليهود، فإن أهل مكة قالوا لهم : نوافقكم في إخراج محمد وقتله وقتال أصحابه، والأول أصح، لأن قوله كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ لو كان مسندا إلى أهل الكتاب لكان مخصوصا ببعض ما أنزل اللّه، وإن قلنا بأنه مسند إلى المشركين يكون عاما، لأنهم كرهوا ما نزل اللّه وكذبوا الرسل بأسرهم، وأنكروا الرسالة رأسا، وقوله سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ يعني فيما يتعلق بمحمد من الإيمان به فلا نؤمن، والتكذيب به فنكذبه كما تكذبونه والقتال معه، وأما الإشراك باللّه، واتخاذ الأنداد له من الأصنام، وإنكار الحشر والنبوة فلا، وقوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ قال أكثرهم : المراد منه هو أنهم قالوا ذلك سرا، فأفشاه اللّه وأظهره لنبيه عليه الصلاة والسلام، والأظهر أن يقال وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ وهو ما في قلوبهم من العلم بصدق محمد عليه الصلاة والسلام، فإنهم كانوا مكابرين معاندين، وكانوا يعرفون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، وقرئ إِسْرارَهُمْ بكسر الهمزة على المصدر «١»، وما ذكرنا من المعنى ظاهر على هذه القراءة، فإنهم كانوا يسرون نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وعلى قولنا المراد من الذين ارتدوا المنافقون، فكانوا
يقولون للمجاهدين من الكفار سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وكانوا يسرون أنهم إن غلبوا انقلبوا، كما قال اللّه تعالى وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ [العنكبوت : ١٠] وقال تعالى : فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ... سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ [الأحزاب : ١٥] ثم قال تعالى :
[سورة محمد (٤٧) : آية ٢٧]
فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧)
اعلم أنه لما قال اللّه تعالى : وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ [محمد : ٢٦] قال فهب أنهم يسرون واللّه لا يظهره اليوم فكيف يبقى مخفيا وقت وفاتهم، أو نقول كأنه تعالى قال : وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ وهب أنهم / يختارون القتال لما فيه الضراب والطعان، مع أنه مفيد على الوجهين جميعا، إن غلبوا فالمال في الحال والثواب في المآل، وإن غلبوا فالشهادة والسعادة، فكيف حالهم إذا ضرب وجوههم وأدبارهم، وعلى هذا فيه لطيفة، وهي أن القتال في الحال إن أقدم المبارزة فربما يهزم الخصم ويسلم وجهه وقفاه، وإن لم يهزمه فالضرب على وجهه إن ضبر وثبت وإن لم يثبت وانهزم، فإن فات القرن فقد سلم وجهه وقفاه وإن لم يفته فالضرب على قفاه لا غير، ويوم الوفاة لا نصرة له ولا مفر، فوجهه وظهره مضروب مطعون، فكيف يحترز عن الأذى ويختار العذاب الأكبر.
[سورة محمد (٤٧) : آية ٢٨]
ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨)
قوله تعالى : ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ وفيه لطيفة، وهي أن اللّه تعالى ذكر أمرين : ضرب الوجه، وضرب الأدبار، وذكر بعدهما أمرين آخرين : اتباع ما أسخط اللّه وكراهة رضوانه، فكأنه

(١) جرى المصنف في تفسيره على القراءة بفتح الهمزة، ولذلك نبه على الثانية هنا وكأنها ليست مشهورة.


الصفحة التالية
Icon