مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ٦٧
النظير، أو المحتاج إليه القليل الوجود، يقال عز الشيء إذا قل وجوده مع أنه محتاج إليه، فالنصر كان محتاجا إليه ومثله لم يوجد وهو أخذ بيت اللّه من الكفار المتمكنين فيه من غير عدد.
أما المسألة المعنوية : وهي أن اللّه تعالى لما قال : لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ أبرز الفاعل وهو اللّه، ثم عطف عليه بقوله وَيُتِمَّ وبقوله وَيَهْدِيَكَ ولم يذكر لفظ اللّه على الوجه الحسن في الكلام، وهو أن الأفعال الكثيرة إذا صدرت من فاعل يظهر اسمه في الفعل الأول، ولا يظهر فيما بعده تقول : جاء زيد وتكلم، وقام وراح، ولا تقول : جاء زيد، وقعد زيد اختصارا للكلام بالاقتصار على الأول، وهاهنا لم يقل وينصرك نصرا، بل أعاد لفظ اللّه، فنقول هذا إرشاد إلى طريق النصر، ولهذا قلما ذكر اللّه النصر من غير إضافة، فقال تعالى : بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ [الروم : ٥] ولم يقل بالنصر ينصر، وقال : هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ [الأنفال : ٦٢] ولم يقل بالنصر، وقال : إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر : ١] وقال : نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [الصف : ١٣] ولم يقل نصر وفتح، وقال : وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الأنفال : ١٠] وهذا أدل الآيات على مطلوبنا، وتحقيقه هو أن النصر بالصبر، والصبر باللّه، قال تعالى : وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل : ١٢٧] وذلك لأن الصبر سكون القلب واطمئنانه، وذلك بذكر اللّه، كما قال تعالى : أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد : ٢٨] فلما قال هاهنا وينصرك اللّه، أظهر لفظ اللّه ذكرا للتعليم أن بذكر اللّه يحصل اطمئنان القلوب، وبه يحصل الصبر، وبه يتحقق النصر، وهاهنا مسألة أخرى وهو أن اللّه تعالى قال : إِنَّا فَتَحْنا ثم قال : لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ولم يقل إنا فتحنا لنغفر لك تعظيما لأمر الفتح، وذلك لأن المغفرة وإن كانت عظيمة لكنها عامة لقوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر : ٥٣] وقال : وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء : ٤٨] ولئن قلنا
بأن المراد من المغفرة في حق النبي عليه السلام العصمة، فذلك لم يختص بنبينا، بل غيره من الرسل كان معصوما، وإتمام / النعمة كذلك، قال اللّه تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة : ٣] وقال : يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة : ٤٧] وكذلك الهداية قال اللّه تعالى : يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «١» [القصص : ٥٦] فعمم، وكذلك النصر قال اللّه تعالى :
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [الصافات : ١٧١، ١٧٢] وأما الفتح فلم يكن لأحد غير النبي صلى اللّه عليه وسلم، فعظمه بقوله تعالى : إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً وفيه التعظيم من وجهين أحدهما : إنا وثانيهما :
لك أي لأجلك على وجه المنة. ثم قال تعالى :
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٤]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤)
لما قال تعالى : وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ [الفتح : ٣] بين وجه النصر، وذلك لأن اللّه تعالى قد ينصر رسله بصيحة يهلك بها أعداءهم، أو رجفة تحكم عليهم بالفناء، أو جند يرسله من السماء، أو نصر وقوة وثبات قلب يرزق المؤمنين به، ليكون لهم بذلك الثواب الجزيل فقال : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ أي تحقيقا للنصر، وفي السكينة وجوه أحدها : هو السكون الثاني : الوقار للّه ولرسول اللّه وهو من السكون الثالث : اليقين والكل من السكون وفيه مسائل :

(١) في تفسير الرازي المطبوع (يهدي إليه من يشاء) وهو خطأ وما أثبتناه هو الصواب من المعجم المفهرس.


الصفحة التالية
Icon