مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ٦٩
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٥]
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥)
[فيه مسائل ] [المسألة الأولى ] يستدعي فعلا سابقا لِيُدْخِلَ فإن من قال ابتداء لتكرمني لا يصح ما لم يقل قبله جئتك أو ما يقوم مقامه وفي ذلك الفعل وجوه وضبط الأحوال فيه بأن تقول ذلك الفعل إما أن يكون مذكورا بصريحه أو لا يكون، وحينئذ ينبغي أن يكون مفهوما، فإما أن يكون مفهوما من لفظ يدل عليه بل فهم بقرينة حالية فإن كان مذكورا فهو يحتمل وجوها أحدها : قوله لِيَزْدادُوا إِيماناً [الفتح : ٤] كأنه تعالى أنزل السكينة / ليزدادوا إيمانا بسبب الإنزال ليدخلهم بسبب الإيمان جنّات، فإن قيل فقوله وَيُعَذِّبَ [الفتح : ٦] عطف على قوله لِيُدْخِلَ وازدياد إيمانهم لا يصلح سببا لتعذيبهم، نقول بلى وذلك من وجهين أحدهما : أن التعذيب مذكور لكونه مقصودا للمؤمنين، كأنه تعالى يقول بسبب ازديادكم في الإيمان يدخلكم في الآخرة جنّات ويعذب بأيديكم في الدنيا الكفار والمنافقين الثاني : تقديره ويعذب بسبب ما لكم من الازدياد، يقال فعلته لأجرب به العدو والصديق أي لأعرف بوجوده الصديق وبعدمه العدو فكذلك ليزداد المؤمن إيمانا فيدخله الجنة ويزداد الكافر كفرا فيعذبه به ووجه آخر ثالث : وهو أن سبب زيادة إيمان المؤمنين بكثرة صبرهم وثباتهم فيعيى المنافق والكافر معه ويتعذب وهو قريب مما ذكرنا الثاني : قوله وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ [الفتح : ٣] كأنه تعالى قال وينصرك اللّه بالمؤمنين ليدخل المؤمنين جنّات الثالث : قوله لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ [الفتح : ٢] على قولنا المراد ذنب المؤمن كأنه تعالى قال ليغفر لك ذنب المؤمنين، ليدخل المؤمنين جنات، وأما إن قلنا هو مفهوم من لفظ غير صريح فيحتمل وجوها أيضا أحدها : قوله حَكِيماً [الفتح : ٤] يدل على ذلك كأنه تعالى قال : اللّه حكيم، فعل ما فعل ليدخل المؤمنين جنات وثانيها : قوله تعالى : وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [الفتح : ٢] في الدنيا والآخرة، فيستجيب دعاءك في الدنيا
ويقبل شفاعتك في العقبى لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ ثالثها : قوله إِنَّا فَتَحْنا لَكَ [الفتح : ١] ووجهه هو أنه
روي أن المؤمنين قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم هنيئا لك إن اللّه غفر لك فماذا لنا؟
فنزلت هذه الآية
كأنه تعالى قال : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك وفتحنا للمؤمنين ليدخلهم جنّات، وأما إن قلنا إن ذلك مفهوم من غير مقال بل من قرينة الحال، فنقول هو الأمر بالقتال لأن من ذكر الفتح والنصر علم أن الحال حال القتال، فكأنه تعالى قال إن اللّه تعالى أمر بالقتال ليدخل المؤمنين، أو نقول عرف من قرينة الحال أن اللّه اختار المؤمنين ليدخلهم جنّات.
المسألة الثانية : قال هاهنا وفي بعض المواضع الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وفي بعض المواضع اكتفى بذكر المؤمنين ودخلت المؤمنات فيهم كما في قوله تعالى : وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب : ٤٧] وقوله تعالى : قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون : ١] فما الحكمة فيه؟ نقول في المواضع التي فيها ما يوهم اختصاص المؤمنين بالجزاء الموعود به مع كون المؤمنات يشتركن معهم ذكرهن اللّه صريحا، وفي المواضع التي ليس فيها ما يوهم ذلك اكتفى بدخولهم في المؤمنين فقوله وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ مع أنه علم من قوله تعالى : وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ : ٢٨] العموم لا يوهم خروج المؤمنات عن البشارة، وأما هاهنا فلما كان قوله تعالى :
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ لفعل سابق وهو إما الأمر بالقتال أو الصبر فيه أو النصر للمؤمنين أو الفتح بأيديهم على ما