مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ٩٢
الأمور العظام، وفي الذكر عند ذكر الكرام، وعلى هذا نقول سواء جعلناه متعديا أو لازما لا يتعدى إلى ما يتعدى إليه التقديم في قولنا قدمت زيدا، فالمعنى واحد لأن قوله لا تُقَدِّمُوا إذا جعلناه متعديا أو لازما لا يتعدى إلى ما يتعدى إليه التقديم في قولنا قدمت زيدا، فتقديره لا تقدموا أنفسكم في حضرة النبي صلى اللّه عليه وسلم أي لا تجعلوا لأنفسكم تقدما ورأيا عنده، ولا نقول بأن المراد لا تقدموا أمرا وفعلا، وحينئذ تتحد القراءتان في المعنى، وهما قراءة من قرأ بفتح التاء والدال وقراءة من قرأ بضم التاء وكسر الدال، وقوله تعالى : بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي بحضرتهما لأن ما بحضرة الإنسان فهو بين يديه وهو ناظر إليه وهو نصب عينيه وفي قوله بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فوائد : أحدها : أن قول القائل فلان بين يدي فلان، إشارة إلى كون كل واحد منهما حاضرا عند الآخر مع أن لأحدهما علو الشأن وللآخر درجة العبيد والغلمان، لأن من يجلس بجنب الإنسان يكلفه تقليب الحدقة إليه وتحريك الرأس إليه عند الكلام والأمر، ومن يجلس بين يديه لا يكلفه ذلك، ولأن اليدين تنبئ عن القدرة يقول القائل هو بين يدي فلان، أي يقلبه كيف شاء في أشغاله كما يفعل الإنسان بما يكون موضوعا بين يديه، وذلك مما يفيد وجوب الاحتراز من التقدم، وتقديم النفس لأن من يكون كمتاع يقلبه الإنسان بيديه كيف يكون له عنده التقدم وثانيها : ذكر اللّه إشارة إلى وجوب احترام الرسول عليه الصلاة والسلام والانقياد لأوامره، وذلك لأن احترام الرسول صلى اللّه عليه وسلم قد يترك على بعد المرسل وعدم اطلاعه على ما يفعل برسوله فقال : بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ أي أنتم بحضرة من اللّه تعالى وهو ناظر إليكم، وفي مثل هذه الحالة يجب احترام رسوله وثالثها : هو أن هذه العبارة كما تقرر النهي المتقدم تقرر معنى الأمر المتأخر وهو قوله وَاتَّقُوا لأن من
يكون بين يدي الغير كالمتاع الموضوع بين يديه يفعل به ما يشاء يكون جديرا بأن يتقيه، وقوله تعالى : وَاتَّقُوا اللَّهَ يحتمل أن يكون ذلك عطفا يوجب مغايرة مثل المغايرة التي في قول القائل لا تتم واشتغل، أي فائدة ذلك النهي هو ما في هذا الأمر، وليس المطلوب به ترك النوم كيف كان، بل المطلوب بذلك الاشتغال فكذلك لا تقدموا أنفسكم ولا تتقدموا على وجه التقوى، ويحتمل أن يكون بينهما مغايرة أتم من ذلك، وهي التي في قول القائل احترم زيدا واخدمه، أي ائت بأتم الاحترام، فكذلك هاهنا معناه لا تتقدموا عنده وإذا تركتم التقدم فلا تتكلوا على ذلك فلا تنتفعوا / بل مع أنكم قائمون بذلك محترمون له اتقوا اللّه واخشوه وإلا لم تكونوا أتيتم بواجب الاحترام وقوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يؤكد ما تقدم لأنهم قالوا آمنا، لأن الخطاب يفهم بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فقد يسمع قولهم ويعلم فعلهم وما في قلوبهم من التقوى والخيانة، فلا ينبغي أن يختلف قولكم وفعلكم وضمير قلبكم، بل ينبغي أن يتم ما في سمعه من قولكم آمنا وسمعنا وأطعنا وما في علمه من فعلكم الظاهر، وهو عدم التقدم وما في قلوبكم من الضمائر وهو التقوى.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢)
لا تُقَدِّمُوا [الحجرات : ١] نهي عن فعل ينبئ عن كونهم جاعلين لأنفسهم عند اللّه ورسوله بالنسبة إليهما وزنا ومقدارا ومدخلا في أمر من أوامرهما ونواهيهما، وقوله لا تَرْفَعُوا نهي عن قول ينبئ عن ذلك الأمر، لأن من يرفع صوته عند غيره يجعل لنفسه اعتبارا وعظمة وفيه فوائد :
الفائدة الأول : ما الفائدة في إعادة النداء، وما هذا النمط من الكلامين على قول القائل يا أَيُّهَا الَّذِينَ


الصفحة التالية
Icon