مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ٩٣
آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ
[الحجرات : ١]، ولا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ؟ نقول في إعادة النداء فوائد خمسة :
منها أن يكون في ذلك بيان زيادة الشفقة على المسترشد كما في قول لقمان لابنه يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ [لقمان : ١٣] يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ [لقمان : ١٦]، يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لقمان : ١٧] لأن النداء لتنبيه المنادى ليقبل على استماع الكلام ويجعل باله منه، فإعادته تفيد ذلك، ومنها أن لا يتوهم متوهم أن المخاطب ثانيا غير المخاطب أولا : فإن من الجائز أن يقول القائل يا زيد افعل كذا وقل كذا يا عمرو، فإذا أعاده مرة أخرى، وقال يا زيد قل كذا، يعلم من أول الكلام أنه هو المخاطب ثانيا أيضا ومنها أن يعلم أن كل واحد من الكلامين مقصود، وليس الثاني تأكيدا للأول كما تقول يا زيد لا تنطق ولا تتكلم إلا بالحق فإنه لا يحسن أن يقال يا زيد لا تنطق يا زيد لا تتكلم كما يحسن عند اختلاف المطلوبين، وقوله تعالى : لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ يحتمل وجوها : أحدها : أن يكون المراد حقيقته، وذلك لأن رفع الصوت دليل قلة الاحتشام وترك الاحترام، وهذا من مسألة حكمية وهي أن الصوت بالمخارج ومن خشي قلبه ارتجف وتضعف حركته الدافعة فلا يخرج منه الصوت بقوة، ومن لم يخف ثبت قلبه وقوي، فرفع الهواء دليل عدم الخشية ثانيها : أن يكون المراد المنع من كثر الكلام لأن من يكثر الكلام يكون متكلما عن سكوت الغير فيكون في وقت سكوت الغير لصوته ارتفاع وإن كان خائفا إذا نظرت إلى حال غيره فلا ينبغي أن يكون لأحد عند النبي صلى اللّه عليه وسلم كلام كثير بالنسبة إلى كلام النبي صلى اللّه عليه وسلم / لأن النبي عليه الصلاة والسلام مبلغ، فالمتكلم عنده إن أراد
الإخبار لا يجوز، وإن استخبر النبي عليه السلام عما وجب عليه البيان، فهو لا يسكت عما يسأل وإن لم يسأل، وربما يكون في السؤال حقيدة برد جواب لا يسهل على المكلف الإتيان به فيبقى في ورطة العقاب ثالثها : أن يكون المراد رفع الكلام بالتعظيم أي لا تجعلوا لكلامكم ارتفاعا على كلام النبي صلى اللّه عليه وسلم في الخطاب كما يقول القائل لغيره أمرتك مرارا بكذا عند ما يقول له صاحبه مرني بأمر مثله، فيكون أحد الكلامين أعلى وأرفع من الآخر، والأول أصح والكل يدخل في حكم المراد، لأن المنع من رفع الصوت لا يكون إلا للاحترام وإظهار الاحتشام، ومن بلغ احترامه إلى حيث تنخفض الأصوات عنده من هيبته وعلو مرتبته لا يكثر عنده الكلام، ولا يرجع المتكلم معه في الخطاب، وقوله تعالى : وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ فيه فوائد :
إحداها : أن بالأول حصل المنع من أن يجعل الإنسان كلامه أو صوته أعلى من كلام النبي صلى اللّه عليه وسلم وصوته، ولقائل أن يقول فما منعت من المساواة فقال تعالى : ولا تجهروا له كما تجهرون لأقرانكم ونظرائكم بل اجعلوا كلمته عليا.
والثانية : أن هذا أفاد أنه لا ينبغي أن يتكلم المؤمن عند النبي عليه السلام كما يتكلم العبد عند سيده، لأن العبد داخل تحت قوله كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ لأنه للعموم فلا ينبغي أن يجهر المؤمن للنبي صلى اللّه عليه وسلم كما يجهر العبد للسيد وإلا لكان قد جهر له كما يجهر بعضكم لبعض، لا يقال المفهوم من هذا النمط أن لا تجعلوه كما يتفق بينكم، بل تميزوه بأن لا تجهروا عنده أبدا وفيما بينكم لا تحافظون على الاحترام، لأنا نقول ما ذكرنا أقرب إلى الحقيقة، وفيه ما ذكرتم من المعنى وزيادة، ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى : النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب : ٦] والسيد ليس أولى عند عبده من نفسه حتى لو كانا في مخمصة ووجد العبد ما لو لم يأكله لمات لا يجب عليه بذله لسيده، ويجب البذل للنبي صلى اللّه عليه وسلم، ولو علم العبد أن بموته ينجو سيده لا يلزمه أن


الصفحة التالية
Icon