مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٢٨٩
الساعة، فلأن منكر خراب العالم ينكر انشقاق السماء وانفطارها وكذلك قوله : في كل جسم سماوي من الكواكب، فإذا انشق بعضها ثبت خلاف ما يقول به، وبان جواز خراب العالم، وقال أكثر المفسرين : معناه أن من علامات قيام الساعة انشقاق القمر عن قريب، وهذا ضعيف حملهم على هذا القول ضيق المكان، وخفاء الأمر على الأذهان، وبيان ضعفه هو أن اللّه تعالى لو أخبر في كتابه أن القمر ينشق، وهو علامة قيام الساعة، لكان ذلك أمرا لا بد من وقوعه مثل خروج دابة الأرض، وطلوع الشمس من المغرب، فلا يكون معجزة النبي صلى اللّه عليه وسلم، كما أن هذه الأشياء عجائب، وليست بمعجزة للنبي، لا يقال : الإخبار عنها قبل وقوعها معجزة، لأنا نقول : فحينئذ يكون هذا من قبيل الإخبار عن الغيوب، فلا يكون هو معجزة برأسه وذلك فاسد، ولا يقال : بأن ذلك كان معجزة وعلامة، فأخبر اللّه في الصحف والكتب السالفة أن ذلك يكون معجزة للنبي صلى اللّه عليه وسلم وتكون الساعة قريبة حينئذ، وذلك لأن بعثة النبي صلى اللّه عليه وسلم علامة كائنة حيث
قال :«بعثت أنا والساعة كهاتين»
ولهذا يحكى عن سطيح أنه لما أخبر بوجود النبي صلى اللّه عليه وسلم قال عن أمور تكون، فكان وجوده دليل أمور، وأيضا القمر لما انشق كان انشقاقه عند استدلال النبي صلى اللّه عليه وسلم على المشركين، وهم كانوا غافلين عما في الكتب، وأما أصحاب الكتب فلم يفتقروا إلى بيان علامة الساعة، لأنهم كانوا يقولون بها وبقربها، فهي إذن آية دالة على جواز تخريب السموات وهو العمدة الكبرى، لأن السموات إذا طويت وجوز ذلك، فالأرض ومن عليها لا يستبعد فناؤهما، إذا ثبت هذا فنقول : معنى اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ يحتمل أن يكون في العقول والأذهان، يقول : من يسمع أمرا لا يقع هذا بعيد مستبعد، وهذا وجه حسن، وإن كان بعض ضعفاء الأذهان ينكره، وذلك لأن حمله على قرب الوقوع زمانا لا إمكانا يمكن الكافر من مجادلة فاسدة، فيقول : قال اللّه تعالى في زمان النبي صلى اللّه عليه وسلم : اقْتَرَبَتِ ويقولون بأن من قبل أيضا في الكتب [السابقة] كان يقول :(اقترب الوعد) ثم مضى مائة سنة ولم يقع، ولا يبعد أن يمضي ألف آخر ولا يقع، ولو صح إطلاق لفظ القرب زمانا على مثل هذا لا يبقى وثوق بالإخبارات، وأيضا قوله :
اقْتَرَبَتِ لانتهاز الفرصة، والإيمان قبل أن لا يصح الإيمان، فللكافر أن يقول، إذا كان القرب بهذا المعنى فلا خوف منها، لأنها لا تدركني، ولا تدرك أولادي، ولا أولاد أولادي، وإذا كان إمكانها قريبا في العقول يكون ذلك ردا بالغا على المشركين والفلاسفة، واللّه سبحانه وتعالى أول ما كلف الاعتراف بالوحدانية واليوم الآخر، وقال : اعلموا أن الحشر كائن فخالف المشرك والفلسفي، ولم يقنع بمجرد إنكار ما ورد الشرع ببيانه، ولم يقل لا يقع أو ليس بكائن، بل قال ذلك بعيد، ولم يقنع بهذا أيضا، بل قال ذلك غير ممكن، ولم يقنع به أيضا، بل قال فإن امتناعه ضروري، فإن مذهبهم أن إعادة المعدوم وإحياء الموتى محال / بالضرورة، ولهذا قالوا : أَإِذا مِتْنا [المؤمنون : ٨٢] أَإِذا كُنَّا عِظاماً [الأسراء : ٤٩] أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ [السجدة :
١٠] بلفظ الاستفهام بمعنى الإنكار مع ظهور الأمر، فلما استبعدوا لم يكتف اللّه ورسوله ببيان وقوعه، بل قال :
أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها [الحج : ٧] ولم يقتصر عليه بل قال : وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الأحزاب : ٦٣] ولم يتركها حتى قال (اقتربت الساعة واقترب الوعد الحق اقترب للناس حسابهم) اقترابا عقليا لا يجوز أن ينكر ما يقع في زمان طرفة عين، لأنه على اللّه يسير، كما أن تقليب الحدقة علينا يسير، بل هو أقرب منه بكثير، والذي يقويه قول العامة : إن زمان وجود العالم زمان مديد، والباقي بالنسبة إلى الماضي شيء يسير، فلهذا قال : اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ.


الصفحة التالية
Icon