مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٢٩٠
وأما
قوله صلى اللّه عليه وسلم :«بعثت أنا والساعة كهاتين»
فمعناه لا نبي بعدي فإن زماني يمتد إلى قيام الساعة، فزماني والساعة متلاصقان كهاتين، ولا شك أن الزمان زمان النبي صلى اللّه عليه وسلم، وما دامت أوامره نافذة فالزمان زمانه وإن كان ليس هو فيه، كما أن المكان الذي تنفذ فيه أوامر الملك مكان الملك يقال له بلاد فلان، فإن قيل : كيف يصح حمله على القرب بالمعقول مع أنه مقطوع به؟ قلت : كما صح قوله تعالى : لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الأحزاب : ٦٣] فإن لعل للترجي والأمر عند اللّه معلوم، وفائدته أن قيام الساعة ممكن لا إمكانا بعيدا عن العادات كحمل الآدمي في زماننا حملا في غاية الثقل أو قطعة مسافة بعيدة في زمان يسير، فإن ذلك ممكن إمكانا بعيدا، وأما تقليب الحدقة فممكن إمكانا في غاية القرب.
المسألة الثانية : الجمع الذين تكون الواو ضميرهم في قوله يَرَوْا ويُعْرِضُوا غير مذكور فمن هم؟
نقول : هم معلومون وهم الكفار تقديره : وهؤلاء الكفار إن يروا آية يعرضوا.
المسألة الثالثة : التنكير في الآية للتعظيم أي إن يروا آية قوية أو عظيمة يعرضوا.
المسألة الرابعة : قوله تعالى : وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ما الفائدة فيه؟ نقول : فائدته بيان كون الآية خالية عن شوائب الشبه، وأن الاعتراف لزمهم لأنهم لم يقدروا أن يقولوا : نحن نأتي بمثلها وبيان كونهم معرضين لا إعراض معذور، فإن من يعرض إعراض مشغول بأمر مهم فلم ينظر في الآية لا يستقبح منه الإعراض مثل ما يستقبح لمن ينظر فيها إلى آخرها ويعجز عن نسبتها إلى أحد ودعوى الإتيان بمثلها، ثم يقول : هذا ليس بشيء هذا سحر لأن ما من آية إلا ويمكن المعاند أن يقول فيها هذا القول.
المسألة الخامسة : ما المستمر؟ نقول : فيه وجوه أحدها : دائم فإن محمدا صلى اللّه عليه وسلم كان يأتي كل زمان بمعجزة قولية أو فعلية أرضية أو سماوية، فقالوا : هذا سحر مستمر دائم لا يختلف بالنسبة إلى النبي عليه السلام بخلاف سحر السحرة، فإن بعضهم يقدر على أمر وأمرين / وثلاثة ويعجز عن غيرها وهو قادر على الكل وثانيها :
مستمر أي قوى من حبل مرير الفتل من المرة وهي الشدة وثالثها : من المرارة أي سحر مر مستبشع ورابعها :
مستمر أي مار ذاهب، فإن السحر لا بقاء له.
[سورة القمر (٥٤) : آية ٣]
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣)
ثم قال تعالى : وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وهو يحتمل أمرين أحدهما : وكذبوا محمدا المخبر عن اقتراب الساعة وثانيهما : كذبوا بالآية وهي انشقاق القمر، فإن قلنا : كذبوا محمدا صلى اللّه عليه وسلم فقوله : وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ أي تركوا الحجة وأولوا الآيات وقالوا : هو مجنون تعينه الجن وكاهن يقول : عن النجوم ويختار الأوقات للأفعال وساحر، فهذه أهواءهم، وإن قلنا : كذبوا بانشقاق القمر، فقوله : وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ في أنه سحر القمر، وأنه خسوف والقمر لم يصبه شيء فهذه أهواءهم، وكذلك قولهم في كل آية.
وقوله تعالى : وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ فيه وجوه أحدها : كل أمر مستقر على سنن الحق يثبت والباطل يزهق، وحينئذ يكون تهديدا لهم، وتسلية للنبي صلى اللّه عليه وسلم، وهو كقوله تعالى : ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ [الزمر : ٧] أي بأنها حق ثانيها : وكل أمر مستقر في علم اللّه تعالى : لا يخفى عليه شيء فهم كذبوا واتبعوا أهواءهم، والأنبياء صدقوا وبلغوا ما جاءهم، كقوله تعالى : لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ [غافر : ١٦]، وكما قال تعالى


الصفحة التالية
Icon