مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٢٩٦
المسألة الثالثة : الباء في قوله : بِماءٍ مُنْهَمِرٍ ما وجهه وكيف موقعه؟ نقول فيه وجهان أحدهما : كما هي في قول القائل فتحت الباب بالمفتاح وتقديره هو أن يجعل كأن الماء جاء وفتح الباب وعلى هذا تفسير قول من يقول : يفتح اللّه لك بخير أي يقدر خيرا يأتي ويفتح الباب، وعلى هذا ففيه لطيفة وهي من بدائع المعاني، وهي أن يجعل المقصود مقدما في الوجود، ويقول كأن مقصودك جاء إلى باب مغلق ففتحه وجاءك، وكذلك قول القائل : لعل اللّه يفتح برزق، أي يقدر رزقا يأتي إلى الباب الذي كالمغلق فيدفعه ويفتحه، فيكون اللّه قد فتحه بالرزق ثانيهما : فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ مقرونة بِماءٍ مُنْهَمِرٍ والانهمار الانسكاب والانصباب صبا شديدا، والتحقيق فيه أن المطر يخرج من السماء التي هي السحاب خروج مترشح من ظرفه، وفي ذلك اليوم كان يخرج خروج مرسل خارج من باب. ثم قال تعالى :
[سورة القمر (٥٤) : آية ١٢]
وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢)
[في قوله تعالى وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ] وفيه من البلاغة ما ليس في قول القائل : وفجرنا عيون الأرض، وهذا بيان التمييز في كثير من المواضع، إذا قلت ضاق زيد ذرعا، أثبت ما لا يثبته قولك ضاق ذرع زيد، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال : وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً ولم يقل ففتحنا السماء أبوابا، لأن السماء أعظم من الأرض وهي للمبالغة، ولهذا قال : أَبْوابَ السَّماءِ ولم يقل : أنابيب ولا منافذ ولا مجاري أو غيرها.
وأما قوله تعالى : وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فهو أبلغ من قوله : وفجرنا عيون الأرض، لأنه يكون حقيقة لا مبالغة فيه، ويكفي في صحة ذلك القول أن يجعل في الأرض عيونا ثلاثة، ولا يصلح مع هذا في السماء إلا قول القائل : فأنزلنا من السماء ماء أو مياها، ومثل هذا الذي ذكرناه في المعنى لا في المعجزة، والحكمة قوله تعالى : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ [الزمر : ٢١] حيث لا مبالغة فيه، وكلامه لا يماثل كلام اللّه ولا يقرب منه، غير أني ذكرته مثلا : وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى [النحل : ٦٠].
المسألة الثانية : العيون في عيون الماء حقيقة أو مجاز؟ نقول : المشهور أن لفظ العين / مشترك، والظاهر أنها حقيقة في العين التي هي آلة الأبصار ومجاز في غيرها، أما في عيون الماء فلأنها تشبه العين الباصرة التي يخرج منها الدمع، أو لأن الماء الذي في العين كالنور الذي في العين غير أنها مجاز مشهور صار غالبا حتى لا يفتقر إلى القرينة عند الاستعمال إلا للتمييز بين العينين، فكما لا يحمل اللفظ على العين الباصرة إلا بقرينة، كذلك لا يحمل على الفوارة إلا بقرينة مثل : شربت من العين واغتسلت منها، وغير ذلك من الأمور التي توجد في الينبوع، ويقال : عانه يعينه إذا أصابه بالعين، وعينه تعيينا، حقيقته جعله بحيث تقع عليه العين، وعاينه معاينة وعيانا، وعين أي صار بحيث تقع عليه العين.
المسألة الثالثة : قوله تعالى : فَالْتَقَى الْماءُ قرئ فالتقى الماءان، أي النوعان، منه ماء السماء وماء الأرض، فتثنى أسماء الأجناس على تأويل صنف، تجمع أيضا، يقال : عندي تمران وتمور وأتمار على تأويل نوعين وأنواع منه والصحيح المشهور : فَالْتَقَى الْماءُ وله معنى لطيف، وذلك أنه تعالى لما قال : فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ [القمر : ١١] ذكر الماء وذكر الانهمار وهو النزول بقوة، فلما قال : وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً كان من الحسن البديع أن يقول : ما يفيد أن الماء نبع منها بقوة، فقال : فَالْتَقَى الْماءُ أي من


الصفحة التالية
Icon