مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٣٥١
بحر السماء وبحر الأرض والبحر العذب والبحر المالح، رابعها : أنه تعالى خلق في الأرض بحارا تحيط بها الأرض وببعض جزائرها يحيط الماء وخلق بحرا محيطا بالأرض وعليه الأرض وأحاط به الهواء كما قال به أصحاب علم الهيئة وورد به أخبار مشهورة، وهذه البحار التي في الأرض لها اتصال بالبحر المحيط، ثم إنهما لا يبغيان على الأرض ولا يغطيانها بفضل اللّه تعالى لتكون الأرض بارزة يتخذها الإنسان مكانا وعند النظر إلى أمر الأرض يحار الطبيعي ويتلجلج في الكلام، فإن عندهم موضع الأرض بطبعه أن يكون في المركز ويكون الماء محيطا بجميع جوانبه، فإذا قيل لهم : فكيف ظهرت الأرض من الماء ولم ترسب يقولون لانجذاب البحار إلى بعض جوانبها، فإن قيل : لما ذا انجذب؟ فالذي يكون عنده قليل من العقل يرجع إلى الحق ويجعله بإرادة اللّه تعالى ومشيئته، والذي يكون عديم العقل يجعل سببه من الكواكب وأوضاعها واختلاف مقابلاتها، وينقطع في كل مقام مرة بعد أخرى، وفي آخر الأمر إذا قيل له : أوضاع الكواكب لم اختلفت على الوجه الذي أوجب البرد في بعض الأرض دون بعض آخر صار كما قال تعالى : فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة : ٢٥٨] ويرجع إلى الحق إن هداه اللّه تعالى.
المسألة الرابعة : إذا كان المرج بمعنى الخلط فما الفائدة في قوله تعالى : يَلْتَقِيانِ؟ نقول قوله تعالى :
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي أرسل بعضهما في بعض وهما عند الإرسال بحيث يلتقيان أو من شأنهما الاختلاط والالتقاء ولكن اللّه تعالى منعهما عما في طبعهما، وعلى هذا يلتقيان حال من البحرين، ويحتمل أن يقال : من محذوف تقديره تركهما فهما يلتقيان إلى الآن ولا يمتزجان وعلى الأول : فالفائدة إظهار القدرة في النفع فإنه إذا أرسل الماءين بعضهما على بعض وفي طبعهما بخلق اللّه وعادته السيلان والالتقاء ويمنعهما البرزخ الذي هو قدرة اللّه أو بقدرة اللّه، يكون أدل على القدرة مما إذا لم يكونا على حال يلتقيان، وفيه إشارة إلى مسألة حكمية وهي : أن الحكماء اتفقوا على أن الماء له حيز واحد بعضه ينجذب إلى بعض كأجزاء الزئبق غير أن عند الحكماء المحققين ذلك بإجراء اللّه تعالى ذلك عليه وعند من يدعي الحكمة ولم يوفقه اللّه من الطبيعيين يقول : ذلك له بطبعه، فقوله : يَلْتَقِيانِ أي من شأنهما أن يكون مكانهما واحدا، ثم إنهما بقيا / في مكان متميزين فذلك برهان القدرة والاختيار وعلى الوجه الثاني : الفائدة في بيان القدرة أيضا على المنع من الاختلاط، فإن الماءين إذا تلاقيا لا يمتزجان في الحال بل يبقيان زمانا يسيرا كالماء المسخن إذا غمس إناء مملوء منه في ماء بارد إن لم يمكث فيه زمانا لا يمتزج بالبارد، لكن إذا دام مجاورتهما فلا بد من الامتزاج فقال تعالى : مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ خلاهما ذهابا إلى أن يلتقيان ولا يمتزجان فذلك بقدرة اللّه تعالى.
ثم قال تعالى : بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ إشارة إلى ما ذكرنا من منعه إياهما من الجريان على عادتهما، والبرزخ الحاجز وهو قدرة اللّه تعالى في البعض وبقدرة اللّه في الباقي، فإن البحرين قد يكون بينهما حاجز أرضي محسوس وقد لا يكون، وقوله : لا يَبْغِيانِ فيه وجهان أحدهما : من البغي أي لا يظلم أحدهما على الآخر بخلاف قول الطبيعي حيث يقول : الماءان كلاهما جزء واحد، فقال : هما لا يَبْغِيانِ ذلك وثانيهما : أن يقال : لا يبغيان من البغي بمعنى الطلب أي لا يطلبان شيئا، وعلى هذا ففيه وجه آخر، وهو أن يقال : إن يبغيان لا مفعول له معين، بل هو بيان أنهما لا يبغيان في ذاتهما ولا يطلبان شيئا أصلا، بخلاف ما يقول الطبيعي : أنه يطلب الحركة والسكون في موضع عن موضع. ثم قال تعالى :


الصفحة التالية
Icon