مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٣٦٢
المسألة الرابعة : ما الحكمة في تقديم الجن على الإنس هاهنا وتقديم الإنس على الجن في قوله تعالى :
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ؟ [الإسراء : ٨٨] نقول : النفوذ من أقطار السموات والأرض بالجن أليق إن أمكن، والإتيان بمثل القرآن بالإنس أليق إن أمكن، فقدم في كل موضع من يظن به القدرة على ذلك.
المسألة الخامسة : ما معنى : لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ؟ نقول : ذلك يحتمل وجوها أحدها : أن يكون بيانا بخلاف ما تقدم أي ما تنفذون ولا تنفذون إلا بقوة وليس لكم قوة على ذلك. ثانيها : أن يكون على تقدير وقوع الأمر الأول، وبيان أن ذلك لا ينفعكم، وتقديره ما تنفذوا وإن نفذتم ما تنفذون إلا ومعكم سلطان اللّه، كما يقول : خرج القوم بأهلهم أي معهم ثالثها : أن المراد من النفوذ ما هو المقصود منه؟ وذلك لأن نفوذهم إشارة إلى طلب خلاصهم فقال : لا تنفذون من أقطار السموات لا تتخلصون من العذاب ولا تجدون ما تطلبون من النفود وهو الخلاص من العذاب إلا بسلطان من اللّه يجيركم وإلا فلا مجير لكم، كما تقول : لا ينفعك البكاء إلا إذا صدقت وتريد به أن الصدق وحده ينفعك، لا أنك إن صدقت فينفعك البكاء رابعها : أن هذا إشارة إلى تقرير التوحيد، ووجهه هو كأنه تعالى قال : يا أيها الغافل لا يمكنك أن تخرج بذهنك عن أقطار السموات والأرض فإذا أنت أبدا تشاهد دليلا من دلائل الوحدانية، ثم هب أنك تنفذ من أقطار السموات والأرض، فاعلم أنك لا تنفذ إلا بسلطان تجده خارج السموات والأرض قاطع دال على وحدانيته تعالى والسلطان هو القوة الكاملة. ثم قال تعالى :
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٣٥ إلى ٣٦]
يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦)
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما وجه تعلق الآية بما قبلها؟ نقول : إن قلنا يا معشر الجن والإنس نداء ينادى به يوم القيامة، فكأنه تعالى قال : يوم يرسل عليكما شواظ من نار فلا يبقى لكما انتصار / إن استطعتما النفوذ فانفذا، وإن قلنا : إن النداء في الدنيا، فنقول قوله : إِنِ اسْتَطَعْتُمْ إشارة إلى أنه لا مهرب لكم من اللّه فيمكنكم الفرار قبل الوقوع في العذاب ولا ناصر لكم فيخلصكم من النار بعد وقوعكم فيها وإرسالها عليكم، فكأنه قال : إن استطعتم الفرار لئلا تقعوا في العذاب ففروا ثم إذا تبين لكم أن لا فرار لكم ولا بد من الوقوع فيه فإذا وقعتم فيه وأرسل عليكم فاعلموا أنكم لا تنصرون فلا خلاص لكم إذن، لأن الخلاص إما بالدفع قبل الوقوع وإما بالرفع بعده، ولا سبيل إليهما.
المسألة الثانية : كيف ثنى الضمير في قوله : عَلَيْكُما مع أنه جمع قبله بقوله : إِنِ اسْتَطَعْتُمْ [الرحمن : ٣٣] والخطاب مع الطائفتين وقال : فَلا تَنْتَصِرانِ وقال من قبل : لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ؟
[الرحمن : ٣٣] نقول : فيه لطيفة، وهي أن قوله : إِنِ اسْتَطَعْتُمْ لبيان عجزهم وعظمة ملك اللّه تعالى، فقال :
إن استطعتم أن تنفذوا باجتماعكم وقوتكم فانفذوا، ولا تستطيعون لعجزكم فقد بان عند اجتماعكم واعتضادكم بعضكم ببعض فهو عند افتراقكم أظهر، فهو خطاب عام مع كل أحد عند الانضمام إلى جميع من عداه من


الصفحة التالية
Icon