مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٤٥٤
[سورة الحديد (٥٧) : آية ١١]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١)
ثم قال تعالى : مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا أن
رجلا من اليهود قال عند نزول هذه الآية ما استقرض إليه محمد حتى افتقر، فلطمه أبو بكر، فشكا اليهودي ذلك إلى رسول اللَّه صلى اللّه عليه وسلم فقال له : ما أردت بذلك؟ فقال : ما ملكت نفسي أن لطمته فنزل قوله تعالى : وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً [آل عمران : ١٨٦]
قال المحققون : اليهودي إنما قال ذلك على سبيل الاستهزاء، لا لأن العاقل يعتقد أن الإله يفتقر، وكذا القول في قولهم : إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آل عمران : ١٨١].
المسألة الثانية : أنه تعالى أكد بهذه الآية ترغيب الناس في أن ينفقوا أموالهم في نصرة المسلمين وقتال الكافرين ومواساة فقراء المسلمين، وسمي ذلك الإنفاق قرضا من حيث وعد به الجنة تشبيها بالقرض.
المسألة الثالثة : اختلفوا في المراد من هذا الإنفاق، فمنهم من قال : المراد الإنفاقات الواجبة، ومنهم من قال : بل هو في التطوعات، والأقرب دخول الكل فيه.
المسألة الرابعة : ذكروا في كون القرض حسنا وجوها أحدها : قال مقاتل : يعني طيبة بها نفسه وثانيها :
قال الكلبي : يعني يتصدق بها لوجه اللَّه وثالثها : قال بعض العلماء : القرض لا يكون حسنا حتى يجمع أوصافا عشرة الأول : أن يكون من الحلال
قال عليه الصلاة والسلام :«إن اللَّه طيب لا يقبل إلا الطيب»
وقال عليه الصلاة والسلام :«لا يقبل اللَّه صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول»
والثاني : أن يكون من أكرم ما يملكه دون أن ينفق الرديء، قال اللَّه تعالى : وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ [البقرة : ٢٦٧]، الثالث : أن تتصدق به وأنت تحبه وتحتاج إليه بأن ترجو الحياة وهو المراد بقوله تعالى : وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [البقرة : ١٧٧].
وبقول : وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ [الإنسان : ٨] على أحد التأويلات وقال عليه الصلاة والسلام :«الصدقة أن تعطي وأنت صحيح شحيح تأمل العيش، ولا تمهل حتى إذا بلغت التراقي قلت لفلان كذا ولفلان كذا»
والرابع : أن تصرف صدقتك إلى الأحوج الأولى بأخذها، ولذلك خص اللَّه تعالى أقواما بأخذها وهم أهل السهمان الخامس : أن تكتم الصدقة ما أمكنك لأنه تعالى قال : وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة : ٢٧١]، السادس : أن لا تتبعها منا ولا أذى، قال تعالى : لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [البقرة :
٢٦٤]، السابع : أن تقصد بها وجه اللَّه ولا ترائي، كما قال : إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى [الليل : ٢٠، ٢١] ولأن المرائي مذموم بالاتفاق الثامن : أن تستحقر ما تعطي وإن كثر، لأن ذلك قليل من الدنيا، والدنيا كلها قليلة، وهذا هو المراد من قوله تعالى : وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر : ٦] في أحد التأويلات التاسع : أن يكون من أحب أموالك إليك، قال تعالى : لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران :
٩٢] العاشر : أن لا ترى عز نفسك وذل الفقير، بل يكون الأمر بالعكس في نظرك، فترى الفقير كأن اللَّه تعالى أحال عليك رزقه الذي قبله بقوله : وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود : ٦] وترى نفسك تحت دين الفقير، فهذه أوصاف عشرة إذا اجتمعت كانت الصدقة قرضا حسنا، وهذه الآية مفسرة في سورة البقرة.
ثم إنه تعالى قال : فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ وفيه مسألتان :


الصفحة التالية
Icon