مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٤٥٨
ظلمة فتطفئ نور المنافقين، فهنالك يقول المنافقون للمؤمنين : انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ كقبس النار.
المسألة الخامسة : ذكروا في المراد من قوله تعالى : قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً وجوها أحدها :
أن المراد منه : ارجعوا إلى دار الدنيا فالتمسوا هذه الأنوار هنالك، فإن هذه الأنوار إنما تتولد من اكتساب المعارف الإلهية، والأخلاق الفاضلة والتنزه عن الجهل والأخلاق الذميمة، والمراد من ضرب السور، هو امتناع العود إلى الدنيا وثانيها : قال أبو أمامة : الناس يكونون في ظلمة شديدة، ثم المؤمنون يعطون الأنوار، فإذا أسرع المؤمن في الذهاب قال المنافق : انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ فيقال لهم : ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً قال : وهي خدعة خدع بها المنافقون، كما قال : يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
[النساء : ١٤٢] فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا، فينصرفون إليهم فيجدون السور مضروبا بينهم وبين المؤمنين وثالثها : قال أبو مسلم : المراد من قول المؤمنين : ارْجِعُوا منع المنافقين عن الاستضاءة، كقول الرجل لمن يريد القرب منه : وراءك أوسع لك، فعلى هذا القول المقصود من قوله : ارْجِعُوا أن يقطعوا بأنه لا سبيل لهم إلى وجدان هذا المطلوب ألبتة، لا أنه أمر لهم بالرجوع.
قوله تعالى : فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : اختلفوا في السور، فمنهم من قال : المراد منه الحجاب والحيلولة أي / المنافقون منعوا عن طلب المؤمنين، وقال آخرون : بل المراد حائط بين الجنة والنار، وهو قول قتادة، وقال مجاهد : هو حجاب الأعراف.
المسألة الثانية : الباء في قوله : بِسُورٍ صلة وهو للتأكيد والتقدير : ضرب بينهم سور كذا، قاله الأخفش، ثم قال : لَهُ بابٌ أي لذلك السور باب باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ أي في باطن ذلك السور الرحمة، والمراد من الرحمة الجنة التي فيها المؤمنين وَظاهِرُهُ يعني وخارج السور مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ أي من قبله يأتيهم العذاب، والمعنى أن ما يلي المؤمنين ففيه الرحمة، وما يلي الكافرين يأتيهم من قبله العذاب، والحاصل أن بين الجنة والنار حائط وهو السور، ولذلك السور باب، فالمؤمنون يدخلون الجنة من باب ذلك السور، والكافرون يبقون في العذاب والنار. ثم قال تعالى :
[سورة الحديد (٥٧) : آية ١٤]
يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (١٤)
[في قوله تعالى يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ إلى قوله حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ ] وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في الآية قولان : الأول : أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ في الدنيا والثاني : أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ في العبادات والمساجد والصلوات والغزوات، وهذا القول هو المتعين.
المسألة الثانية : البعد بين الجنة والنار كثير، لأن الجنة في أعلى السموات، والنار في الدرك الأسفل، فهذا يدل على أن البعد الشديد لا يمنع من الإدراك، ولا يمكن أن يقال : إن اللَّه عظم صوت الكفار بحيث يبلغ من أسفل السافلين إلى أعلى عليين، لأن مثل هذا الصوت إنما يليق بالأشداء الأقوياء جدا، والكفار موصوفون بالضعف وخفاء الصوت، فعلمنا أن البعد لا يمنع من الإدراك على ما هو مذهبنا، ثم حكى تعالى : أن المؤمنين


الصفحة التالية
Icon