مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٤٦٣
آمنوا باللَّه ورسله هم الصديقون وهم الشهداء، قال مجاهد : كل مؤمن فهو صديق وشهيد وتلا هذه الآية، جذا القول اختلفوا في أنه لم سمي كل مؤمن شهيد؟ فقال بعضهم لأن المؤمنين هم الشهداء عند ربهم على العباد في أعمالهم، والمراد أنهم عدول الآخرة الذي تقبل شهادتهم، وقال الحسن : السبب في هذا الاسم أن كل مؤمن فإنه يشهد كرامة ربه، وقال الأصم : كل مؤمن شهيد لأنه قائم للَّه تعالى بالشهادة فيما تعبدهم به من وجوب الإيمان ووجوب الطاعات وحرمة الكفر والمعاصي، وقال أبو مسلم : قد ذكرنا أن الصديق نعت لمن كثر منه الصدق وجمع صدقا إلى صدق في الإيمان باللَّه تعالى ورسله فصاروا بذلك شهداء على غيرهم القول الثاني : أن قوله : وَالشُّهَداءُ ليس عطفا على ما تقدم بل هو مبتدأ، وخبره قوله عِنْدَ رَبِّهِمْ أو يكون ذلك صفة وخبره هو قوله لَهُمْ أَجْرُهُمْ وعلى هذا القول اختلفوا في المراد من الشهداء، فقال الفراء والزجاج : هم الأنبياء لقوله تعالى : فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء : ٤١] وقال مقاتل ومحمد بن جرير : الشهداء هم الذين استشهدوا في سبيل اللَّه، وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال :«ما تعدون الشهداء فيكم؟ قالوا : المقتول، فقال : إن شهداء أمتي إذا لقليل، ثم ذكر أن المقتول شهيد، والمبطون شهيد، والمطعون شهيد» الحديث.
واعلم أنه تعالى لما ذكر حال المؤمنين، أتبعه بذكر حال الكافرين فقال : وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. ولما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين ذكر بعده ما يدل على حقارة الدنيا وكما حال الآخرة فقال :
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٠]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠)
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : المقصود الأصلي من الآية تحقير حال الدنيا وتعظيم حال الآخرة فقال :/ الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر، ولا شك أن هذه الأشياء أمور محقرة، وأما الآخرة فهي عذاب شديد دائم أو رضوان اللَّه على سبيل الدوام، ولا شك أن ذلك عظيم.
المسألة الثانية : اعلم أن الحياة الدنيا حكمة وصواب، ولذلك لما قال تعالى : إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً... قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة : ٣٠] ولولا أنها حكمة وصواب لما قال ذلك، ولأن الحياة خلقه، كما قال : الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الملك : ٢] وأنه لا يفعل العبث على ما قال : أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً [المؤمنين : ١١٥] وقال : وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ولأن الحياة نعمة بل هي أصل لجميع النعم، وحقائق الأشياء لا تختلف بأن كانت في الدنيا أو في الآخرة، ولأنه تعالى عظم المنة بخلق الحياة فقال : كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [البقرة : ٢٨] فأول ما ذكر من أصناف نعمه هو الحياة، فدل مجموع ما ذكرنا على أن الحياة الدنيا غير مذمومة، بل المراد أن من صرف هذه الحياة الدنيا لا إلى طاعة اللَّه بل إلى طاعة الشيطان ومتابعة الهوى، فذاك هو المذموم، ثم إنه تعالى وصفها بأمور :


الصفحة التالية
Icon