مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٤٧٢
وجدانه أعسر كانت الحاجة إليه أقل، والجواهر لما كانت الحاجة إليها قليلة جدا، لا جرم كانت عزيزة جدا، فعلمنا أن كل شيء كانت الحاجة إليه أكثر كان وجدانه أسهل، ولما كانت الحاجة إلى رحمة اللَّه تعالى أشد من الحاجة إلى كل شيء فنرجو من فضله أن يجعلها أسهل الأشياء وجدانا، قال الشاعر :
سبحان من خص العزيز بعزه والناس مستغنون عن أجناسه
وأذل أنفاس الهواء وكل ذي نفس فمحتاج إلى أنفاسه
ثم قال تعالى : وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : المعنى وليعلم اللَّه من ينصره، أي ينصر دينه، وينصر رسله باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين بالغيب أي غائبا عنهم. قال ابن عباس : ينصرونه ولا يبصرونه، ويقرب منه قوله تعالى : إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [محمد : ٧].
المسألة الثانية : احتج من قال بحدوث علم اللَّه بقوله : وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ والجواب عنه أنه تعالى أراد بالعلم المعلوم، فكأنه تعالى قال : ولتقع نصرة الرسول عليه الصلاة والسلام ممن ينصره.
المسألة الثالثة : قال الجبائي : قوله تعالى : لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ فيه دلالة على أنه تعالى أنزل الميزان والحديد، ومراده من العباد أن يقوموا بالقسط وأن ينصروا الرسول، وإذا كان هذا مراده من الكل فقد بطل قول المجبرة أنه أراد من بعضهم خلاف ذلك جوابه : أنه كيف يمكن أن يريد من الكل ذلك مع علمه بأن ضده موجود، وأن الجمع بين الضدين محال، وأن المحال غير مراد.
المسألة الرابعة : لما كانت النصرة قد تكون ظاهرة، كما يقع من منافق أو ممن مراده المنافع في الدنيا، بين تعالى أن الذي أراده النصرة بالغيب، ومعناه أن تقع عن إخلاص بالقلب، ثم بين تعالى أنه قوي على الأمور عزيز لا يمانع.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٦]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦)
قوله تعالى : وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه أرسل الرسل بالبينات والمعجزات، وأنه أنزل الميزان والحديد، وأمر الخلق بأن / يقوموا بنصرتهم أتبع ذلك ببيان سائر الأشياء التي أنعم بها عليهم، فبين أنه تعالى شرف نوحا وإبراهيم عليهما السلام بالرسالة، ثم جعل في ذريتهما النبوة والكتاب فما جاء بعدهما أحد بالنبوة إلا وكان من أولادهما، وإنما قدم النبوة على الكتاب، لأن كمال حال النبي أن يصير صاحب الكتاب والشرع.
ثم قال تعالى : فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ أي فمن الذرية أو من المرسل إليهم، وقد دل عليهم ذكر الإرسال والمرسلين، والمعنى أن منهم مهتد ومنهم فاسق، والغلبة للفساق، وفي الفاسق هاهنا قولان : الأول : أنه الذي ارتكب الكبيرة سواء كان كافرا أو لم يكن، لأن هذا الاسم يطلق على الكافر وعلى من لا يكون، كذلك إذا كان


الصفحة التالية
Icon