مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٤٩٧
يكون مقصرا، وأما لو قيل بأنهم ناجوا من غير تقديم الصدقة، فهذا أيضا غير جائز، لأن المناجاة لا تمكن إلا إذا مكن الرسول من المناجاة، فإذا لم يمكنهم من ذلك لم يقدروا على المناجاة، فعلمنا أن الآية لا تدل على صدور التقصير منهم، فأما قوله : أَأَشْفَقْتُمْ فلا يمتنع أن اللَّه تعالى علم ضيق صدر كثير منهم عن إعطاء الصدقة في المستقبل لو دام الوجوب، فقال هذا القول، وأما قوله : وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فليس في الآية أنه تاب عليكم من هذا التقصير، بل يحتمل أنكم إذا كنتم تائبين راجعين إلى اللَّه، وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة، فقد كفاكم هذا التكليف، أما قوله : وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ يعني محيط بأعمالكم ونياتكم.
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ١٤]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤)
كان المنافقون يتولون اليهود وهم الذين غضب اللَّه عليهم في قوله : مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ [المائدة : ٦٠] وينقلون إليهم أسرار المؤمنين : ما هُمْ مِنْكُمْ أيها المسلمون ولا من اليهود وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ والمراد من هذا الكذب إما ادعاؤهم كونهم مسلمين، وإما أنهم كانوا يشتمون اللَّه ورسوله ويكيدون المسلمين فإذا قيل لهم : إنكم فعلتم ذلك خافوا على أنفسهم من القتل، فيحلفون أنا ما قلنا ذلك وما فعلناه، فهذا هو الكذب الذي يحلفون عليه.
واعلم أن هذه الآية تدل على فساد قول الجاحظ إن الخبر الذي يكون مخالفا للمخبر عنه إنما يكون كذبا لو علم المخبر كون الخبر مخالفا للمخبر عنه، وذلك لأن لو كان الأمر على ما ذهب إليه لكان قوله : وَهُمْ يَعْلَمُونَ تكرارا غير مقيد،
يروى أن عبد اللَّه بن نبتل المنافق كان / يجالس رسول اللَّه صلى اللّه عليه وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا رسول اللَّه صلى اللّه عليه وسلم في حجرته إذ قال : يدخل عليكم رجل ينظر بعين شيطان- أو بعيني شيطان- فدخل رجل عيناه زرقاوان فقال له : لم تسبني فجعل يحلف فنزل قوله : وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ١٥]
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥)
والمراد منه عند بعض المحققين عذاب القبر. ثم قال تعالى :
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ١٦]
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦)
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ الحسن : اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ بكسر الهمزة، قال ابن جني : هذا على حذف المضاف، أي اتخذوا ظهار إيمانهم جنة عن ظهور نفاقهم وكيدهم للمسلمين، أو جنة عن أن يقتلهم المسلمون، فلما أمنوا من القتل اشتغلوا بصد الناس عن الدخول في الإسلام بإلقاء الشبهات في القلوب وتقبيح حال الإسلام.
المسألة الثانية : قوله تعالى : فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أي عذاب الآخر، وإنما حملنا قوله : أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً على عذاب القبر، وقوله هاهنا : فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ على عذاب الآخر، لئلا يلزم التكرار، ومن الناس من قال : المراد من الكل عذاب الآخرة، وهو كقوله : الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ [النحل : ٨٨].


الصفحة التالية
Icon