مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٥٠٣
قوله تعالى : وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ قال أهل اللغة : الرعب، الخوف الذي يستوعب الصدر، أي يملؤه، وقذفه إثباته فيه، وفيه قالوا في صفة الأسد : مقذف، كأنما قذف باللحم قذفا لاكتنازه وتداخل أجزائه، واعلم أن هذه الآية تدل على قولنا من أن الأمور كلها اللَّه، وذلك لأن الآية دلت على أن وقوع ذلك الرعب في قلوبهم كان من اللَّه ودلت على أن ذلك الرعب صار سببا في إقدامهم على بعض الأفعال، وبالجملة فالفعل لا يحصل إلا عند حصول داعية متأكدة في القلب، وحصول تلك الداعية لا يكون إلا من اللَّه، فكانت الأفعال بأسرها مسندة إلى اللَّه بهذا الطريق.
قوله تعالى : يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فيه مسائل :
المسألة الأولى : قال أبو علي : قرأ أبو عمرو وحده : يُخْرِبُونَ مشددة، وقرأ الباقون : يُخْرِبُونَ خفيفة، وكان أبو عمرو يقول : الإخراب أن يترك الشيء خرابا والتخريب الهدم، وبنو النضير خربوا وما أخربوا قال المبرد : ولا أعلم لهذا وجها، ويخربون هو الأصل خرب المنزل، فإنما هو تكثير، لأنه ذكر بيوتا تصلح للقليل والكثير، وزعم سيبويه أنهما يتعاقبان في الكلام، فيجري كل واحد مجرى الآخر، نحو فرحته وأفرحته، وحسنه اللَّه وأحسنه، وقال الأعمش :
«و أخربت من أرض قوم ديارا»
وقال الفراء : يُخْرِبُونَ بالتشديد يهدمون، وبالتخفيف يخربون منها ويتركونها.
المسألة الثانية : ذكر المفسرون في بيان أنهم كيف كانوا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين وجوها أحدها : أنهم لما أيقنوا بالجلاء، حسدوا المسلمين أن يسكنوا مساكنهم ومنازلهم، فجعلوا يخربونها من داخل، والمسلمون من خارج وثانيها : قال مقاتل : إن المنافقين دسوا إليهم أن لا يخرجوا، ودربوا على الأزقة وحصنوها، فنقضوا بيوتهم وجعلوها كالحصون على أبواب الأزقة، وكان المسلمون يخربون سائر الجوانب وثالثها : أن المسلمين إذا ظهروا على درب من دروبهم خربوه، وكان اليهود يتأخرون إلى ما وراء بيوتهم، وينقبونها من أدبارها ورابعها : أن المسلمين كانوا يخربون ظواهر البلد، واليهود لما أيقنوا بالجلاء، وكانوا ينظرون / إلى الخشبة في منازلهم مما يستحسنونه أو الباب فيهدمون بيوتهم، وينزعونها ويحملونها على الإبل، فإن قيل : ما معنى تخريبهم لها بأيدي المؤمنين؟ قلنا قال الزجاج : لما عرضوهم لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوه إياهم.
قوله تعالى : فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [المسألة الأولى ] اعلم أنا قد تمسكنا بهذه الآية في كتاب «المحصول من أصول الفقه» على أن القياس حجة فلا نذكره هاهنا، إلا أنه لا بد هاهنا من بيان الوجه الذي أمر اللَّه فيه بالاعتبار، وفيه احتمالات أحدها : أنهم اعتمدوا على حصونهم، وعلى قوتهم وشوكتهم، فأباد اللَّه شوكتهم وأزال قوتهم، ثم قال : فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ ولا تعتمدوا على شيء غير اللَّه، فليس للزاهد أن يتعمد على زهده، فإن زهده لا يكون أكثر من زهد بلعام، وليس للعالم أن يعتمد على علمه، أنظر إلى ابن الراوندي مع كثرة ممارسته كيف صار، بل لا اعتماد لأحد في شيء إلا على فضل اللَّه ورحمته وثانيها : قال القاضي : المراد أن يعرف الإنسان عاقبة الغدر والكفر والطعن في النبوة،