مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٥٢٧
يوجد الوفاء بما وعدهم خيف عليهم في كل زلة أن يدخلوا في هذه الآية ثم في هذه الجملة مباحث :
الأول : قال تعالى : سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [الحديد : ١، الحشر : ١] في أول هذه السورة، ثم قال تعالى في أول سورة أخرى، وهذا هو التكرار، والتكرار عيب، فكيف هو؟ فنقول : يمكن أن يقال : كرره ليعلم أنه في نفس الأمر غير مكرر لأن ما وجد منه التسبيح عند وجود العالم بإيجاد اللَّه تعالى فهو غير ما وجد منه التسبيح بعد وجود العالم، وكذا عند وجود آدم وبعد وجوده.
الثاني : قال : سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ولم يقل : سبح للَّه السموات والأرض وما فيهما، مع أن في هذا من المبالغة ما ليس في ذلك؟ فنقول : إنما يكون كذلك إذا كان المراد من التسبيح، التسبيح بلسان الحال مطلقا، أما إذا كان المراد هو التسبيح المخصوص فالبعض يوصف كذا، فلا يكون كما ذكرتم.
الثالث : قال صاحب الكشاف : لِمَ هي لام الإضافة داخلة على ما الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك : بم وفيم وعم ومم، وإنما حذفت الألف لأن (ما) والحرف كشيء واحد، وقد وقع استعمالها في كلام المستفهم، ولو كان كذلك لكان معنى الاستفهام واقعا، في قوله تعالى : لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ والاستفهام من اللَّه تعالى محال وهو عالم بجميع الأشياء، فنقول : هذا إذا كان المراد من الاستفهام طلب الفهم، أما إذا كان المراد إلزام من أعرض عن الوفاء ما وعد أو أنكر الحق وأصر على الباطل فلا. ثم قال تعالى :
[سورة الصف (٦١) : آية ٣]
كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣)
والمقت هو البغض، ومن استوجب مقت اللَّه لزمه العذاب، قال صاحب الكشاف : المقت أشد البغض وأبلغه وأفحشه، وقال الزجاج : أَنْ في موضع رفع و : مَقْتاً منصوب على التمييز، والمعنى : كبر قولكم ما لا تفعلون مقتا عند اللَّه، وهذا كقوله تعالى : كَبُرَتْ كَلِمَةً [الكهف : ٥].
[سورة الصف (٦١) : آية ٤]
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤)
قرأ زيد بن علي : يُقاتِلُونَ بفتح التاء، وقرئ (يقتلون) أن يصفون صفا، والمعنى يصفون أنفسهم عند القتال كأنهم بنيان مرصوص، قال الفراء : مرصوص بالرصاص، يقال : رصصت البناء إذا / لا يمت بينه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة، وقال الليث : يقال : رصصت البناء إذا ضممته، والرص انضمام الأشياء بعضها إلى بعض، وقال ابن عباس : يوضع الحجر على الحجر ثم يرص بأحجار صغار ثم يوضع اللبن عليه فتسميه أهل مكة المرصوص، وقال أبو إسحاق : أعلم اللَّه تعالى أنه يحب من يثبت في الجهاد ويلزم مكانه كثبوت البناء المرصوص، وقال : ويجوز أن يكون على أن يستوي شأنهم في حرب عدوهم حتى يكونوا في اجتماع الكلمة، وموالاة بعضهم بعضا كالبنيان المرصوص، وقيل : ضرب هذا المثل للثبات : يعني إذا اصطفوا ثبتوا كالبنيان المرصوص الثابت المستقر، وقيل : فيه دلالة على فضل القتال راجلا، لأن العرب يصطفون على هذه الصفة، ثم المحبة في الظاهر على وجهين أحدهما : الرضا عن الخلق وثانيها : الثناء عليهم بما يفعلون، ثم ما وجه تعلق الآية بما قبلها وهو قوله تعالى : كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ نقول تلك الآية مذمة المخالفين في القتال


الصفحة التالية
Icon