مفاتيح الغيب، ج ٣٠، ص : ٥٥٣
دعته إلى خلقهم؟ نقول : إذا علمنا أنه تعالى حكيم، علمنا أن أفعاله كلها على وفق الحكمة، وخلق هذه الطائفة فعله، فيكون على وفق الحكمة، ولا يلزم من عدم علمنا بذلك أن لا يكون كذلك بل اللازم أن يكون خلقهم على وفق الحكمة.
الثاني : قال : وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وقد كان من أفراد هذا النوع من كان مشوه الصورة سمج الخلقة؟ نقول : لا سماجة ثمة لكن الحسن كغيره من المعاني على طبقات ومراتب فلانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقها انحطاطا بينا لا يظهر حسنه، وإلا فهو داخل في حيز الحسن غير خارج عن حده.
الثالث : قوله تعالى : وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يوهم الانتقال من جانب إلى جانب، وذلك لا يمكن إلا أن يكون اللَّه في جانب، فكيف هو؟ قلت : ذلك الوهم بالنسبة إلينا وإلى زماننا لا بالنسبة إلى ما يكون في نفس الأمر، فإن نفس الأمر بمعزل عن حقيقة الانتقال من جانب إلى جانب إذا كان المنتقل إليه منزها عن الجانب وعن الجهة. ثم قال تعالى :
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ٥ إلى ٧]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧)
اعلم أن قوله : أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا خطاب لكفار مكة وذلك إشارة إلى الويل الذي ذاقوه في الدنيا وإلى ما أعد لهم من العذاب في الآخرة. فقوله : فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أي شدة أمرهم مثل قوله : ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ وقوله : ذلِكَ بِأَنَّهُ أي بأن الشأن والحديث أنكروا أن يكون الرسول بشرا. ولم ينكروا أن يكون معبودهم حجرا فكفروا وتولوا، وكفروا بالرسل وأعرضوا واستغنى اللَّه عن طاعتهم وعبادتهم من الأزل، وقوله تعالى : وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ من جملة ما سبق، والحميد بمعنى المحمود أي المستحق للحمد بذاته ويكون بمعنى الحامد، وقوله تعالى : زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا قال في «الكشاف» : الزعم ادعاء العلم، ومنه
قوله صلى اللَّه عليه وسلم :«زعموا مطية الكذب»
وعن شريح لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا، ويتعدى إلى مفعولين، تعدى، العلم، قال الشاعر :
ولم أزعمك عن ذلك معزولا
والذين كفروا هم أهل مكة بَلى إثبات لما بعد أن وهو البعث وقيل : قوله تعالى : قُلْ بَلى وَرَبِّي يحتمل أن يكون تعليما للرسول صلى اللَّه عليه وسلم، أي يعلمه القسم تأكيدا لما كان يخبر عن البعث وكذلك جميع القسم في القرآن وقوله تعالى : وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي لا يصرفه صارف، وقيل : إن أمر البعث على اللَّه يسير، لأنهم أنكروا البعث بعد أن صاروا ترابا، فأخبر أن إعادتهم أهون في العقول من إنشائهم، وفي الآية مباحث.
الأول : قوله : فَكَفَرُوا يتضمن قوله : وَتَوَلَّوْا فما الحاجة إلى ذكره؟ نقول : إنهم كفروا وقالوا :
أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا وهذا في معنى الإنكار والإعراض بالكلية، وذلك هو التولي، فكأنهم كفروا وقالوا قولا يدل على التولي، ولهذا قال : فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا.