مفاتيح الغيب، ج ٣٠، ص : ٥٥٤
الثاني : قوله : وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ يوهم وجود التولي والاستغناء معا، واللَّه تعالى لم يزل غنيا، قال في «الكشاف» : معناه أنه ظهر استغناء اللَّه حيث لم يلجئهم إلى الإيمان، ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك.
الثالث : كيف يفيد القسم في إخباره عن البعث وهم قد أنكروا رسالته. نقول : إنهم / وإن أنكروا الرسالة لكنهم يعتقدون أنه يعتقد ربه اعتقادا لا مزيد عليه فيعلمون أنه لا يقدم على القسم بربه إلا وأن يكون صدق هذا الإخبار أظهر من الشمس عنده وفي اعتقاده، والفائدة في الإخبار مع القسم ليس إلا هذا، ثم إنه أكد الخبر باللام والنون فكأنه قسم بعد قسم.
ولما بالغ في الإخبار عن البعث والاعتراف بالعبث من لوازم الإيمان قال :
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ٨ إلى ١٠]
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠)
قوله : فَآمِنُوا يجوز أن يكون صلة لما تقدم لأنه تعالى لما ذكر ما نزل من العقوبة بالأمم الماضية، وذلك لكفرهم باللَّه وتكذيب الرسل قال : فَآمِنُوا أنتم بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ لئلا ينزل بكم ما نزل بهم من العقوبة وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وهو القرآن فإنه يهتدى به في الشبهات كما يهتدى بالنور في الظلمات، وإنما ذكر النور الذي هو القرآن لما أنه مشتمل على الدلالات الظاهرة على البعث، ثم ذكر في «الكشاف» : أنه عنى برسوله والنور محمدا صلى اللَّه عليه وسلم والقرآن وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي بما تسرون وما تعلنون فراقبوه وخافوه في الحالين جميعا وقوله تعالى : يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ يريد به يوم القيامة جمع فيه أهل السموات وأهل الأرض، وذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ والتغابن تفاعل من الغبن في المجازاة والتجارات، يقال : غبنه يغبنه غبنا إذا أخذ الشيء منه بدون قيمته، قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما : إن قوما في النار يعذبون وقوما في الجنة يتنعمون، وقيل : هو يوم يغبن فيه أهل الحق، أهل الباطل، وأهل الهدى أهل الضلالة، وأهل الإيمان.
أهل الكفر فلا غبن أبين من هذا، وفي الجملة فالغبن في البيع والشراء وقد ذكر تعالى في حق الكافرين أنهم اشتروا الحياة / الدنيا بالآخرة واشتروا الضلالة بالهدى، ثم ذكر أنهم ما ربحت تجارتهم ودل المؤمنين على تجارة رابحة، فقال : هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ [الصف : ١٠] الآية، وذكر أنهم باعوا أنفسهم بالجنة فخسرت صفقة الكفار وربحت صفقة المؤمنين، وقوله تعالى : وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يؤمن باللَّه على ما جاءت به الرسل من الحشر والنشر والجنة والنار وغير ذلك، ويعمل صالحا أي يعمل في إيمانه صالحا إلى أن يموت، قرئ يجمعكم ويكفر ويدخل بالياء والنون، وقوله : وَالَّذِينَ كَفَرُوا أي بوحدانية اللَّه تعالى وبقدرته وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أي بآياته الدالة على البعث أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ثم في الآية مباحث :
الأول : قال : فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ بطريق الإضافة، ولم يقل : ونوره الذي أنزلنا بطريق الإضافة مع أن النور هاهنا هو القرآن والقرآن كلامه ومضاف إليه؟ نقول : الألف واللام في النور بمعنى الإضافة كأنه قال :
ورسوله ونوره الذي أنزلنا.


الصفحة التالية
Icon