مفاتيح الغيب، ج ٣٠، ص : ٥٧٣
فنقول : ليس هذا في معنى ذلك لأن معنى الأول أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا ينكرونها، ومعنى الثاني أنهم (يؤدون) «١» ما يؤمرون به كذا ذكره في «الكشاف». ثم قال تعالى :
[سورة التحريم (٦٦) : الآيات ٨ إلى ٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩)
قوله : تَوْبَةً نَصُوحاً أي توبة بالغة في النصح، وقال الفراء : نصوحا من صفة التوبة والمعنى توبة تنصح صاحبها بترك العود إلى ما تاب منه، وهو أنها الصادقة الناصحة ينصحون بها أنفسهم، وعن عاصم، نَصُوحاً بضم النون، وهو مصدر نحو العقود، يقال : نصحت له نصحا ونصاحة ونصوحا، وقال في «الكشاف» : وصفت التوبة بالنصح على الإسناد المجازي، وهو أن يتوبوا عن القبائح نادمين عليها غاية الندامة لا يعودون، وقيل :
من نصاحة الثوب، أي خياطته وعَسى رَبُّكُمْ إطماع من اللّه تعالى لعباده.
وقوله تعالى : يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ نصب بيدخلكم، ولا يُخْزِي تعريض لمن أخزاهم اللّه من أهل الكفر والفسق واستحماد للمؤمنين على أنه عصمهم من مثل حالهم، ثم المعتزلة تعلقوا بقوله تعالى : يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وقالوا : الإخزاء يقع بالعذاب، فقد وعد بأن لا يعذب الذين آمنوا، ولو كان أصحاب الكبائر من الإيمان لم نخف عليهم العذاب، وأهل السنة أجابوا / عنه بأنه تعالى وعد أهل الإيمان بأن لا يخزيهم، والذين آمنوا ابتداء كلام، وخبره يَسْعى، أو لا يُخْزِي اللَّهُ، ثم من أهل السنة من يقف على قوله : يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ أي لا يخزيه في رد الشفاعة، والإخزاء الفضيحة، أي لا يفضحهم بين يدي الكفار، ويجوز أن يعذبهم على وجه لا يقف عليه الكفرة، وقوله : بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي عند المشي وَبِأَيْمانِهِمْ عند الحساب، لأنهم يؤتون الكتاب بأيمانهم وفيه نور وخير، ويسعى النور بين أيديهم في موضع وضع الأقدام وبأيمانهم، لأن خلفهم وشمالهم طريق الكفرة.
وقوله تعالى : يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا قال ابن عباس : يقولون ذلك عند إطفاء نور المنافقين إشفاقا، وعن الحسن : أنه تعالى متمم لهم نورهم، ولكنهم يدعون تقربا إلى حضرة اللّه تعالى، كقوله :
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد : ١٩] وهو مغفور، وقيل : أدناهم منزلة من نوره بقدر ما يبصر مواطئ قدمه، لأن النور على قدر الأعمال فيسألون إتمامه، وقيل : السابقون إلى الجنة يمرون مثل البرق على الصراط، وبعضهم كالريح، وبعضهم حبوا وزحفا، فهم الذين يقولون : رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا قاله في «الكشاف»، وقوله تعالى :
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ذكر المنافقين مع أن لفظ الكفار يتناول المنافقين وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ أي شدد عليهم، والمجاهدة قد تكون بالقتال، وقد تكون بالحجة تارة باللسان، وتارة بالسنان، وقيل : جاهدهم بإقامة الحدود عليهم، لأنهم هم المرتكبون الكبائر، لأن أصحاب الرسول عصموا منها وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وقد مر بيانه، وفي الآية مباحث :

(١) ما بين الهلالين زيادة من الكشاف (٤ / ١٢٩ ط. دار الفكر).


الصفحة التالية
Icon