مفاتيح الغيب، ج ٣٠، ص : ٥٩٩
حيث لم تقطع الهمزة معها علمنا أنها في تقدير الوصل وإذا وصلتها أخفيت النون وقد ذكرنا هذا في طس [النمل : ١] ويس، [يس : ١] وقال الفراء : وإظهارها أعجب إلي لأنها هجاء والهجاء كالموقوف عليه وإن اتصل.
وقوله تعالى : وَالْقَلَمِ فيه قولان : أحدهما : أن القسم به هو الجنس وهو واقع على كل قلم يكتب به من في السماء ومن في الأرض، قال تعالى : وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق : ٣- ٥] فمنّ بتيسير الكتابة بالقلم كما منّ بالنطق فقال : خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرحمن : ٣، ٤] ووجه الانتفاع به أن ينزل الغائب منزلة المخاطب فيتمكن المرء من تعريف البعيد به ما يتمكن باللسان من تعريف القريب والثاني : أن المقسم به هو القلم المعهود الذي جاء في الخبر أن أول ما خلق اللّه القلم، قال ابن عباس : أول ما خلق اللَّه القلم ثم قال له اكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، فجرى بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة من الآجال والأعمال، قال : وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض، وروى مجاهد عنه قال :
أول ما خلق اللَّه القلم فقال : اكتب القدر فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه. قال القاضي : هذا الخبر يجب حمله على المجاز، لأن القلم الذي هو آلة مخصوصة في الكتابة لا يجوز أن يكون حياً عاقلًا فيؤمر وينهى فإن الجمع بين كونه حيوانا مكلفا وبين كونه آلة للكتابة محالة، بل المراد منه أنه تعالى أجراه بكل ما يكون وهو كقوله : إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة : ١١٧] فإنه ليس هناك أمر ولا تكليف، بل هو مجرد نفاذ القدرة في المقدور من غير منازعة ولا مدافعة، ومن الناس من زعم أن القلم المذكور هاهنا هو العقل، وأنه شيء هو كالأصل لجميع المخلوقات، قالوا : والدليل عليه أنه
روي في الأخبار أن أول ما خلق اللَّه القلم،
وفي خبر آخر : أول ما خلق اللَّه تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فذابت وتسخنت فارتفع منها دخان وزبد فخلق من الدخان السموات ومن الزبد الأرض،
قالوا : فهذه الأخبار بمجموعها تدل على أن القلم والعقل وتلك الجوهرة التي هي أصل المخلوقات شيء واحد وإلا حصل التناقض.
قوله تعالى : وَما يَسْطُرُونَ.
اعلم أن ما مع ما بعدها في تقدير المصدر، فيحتمل أن يكون المراد وسطرهم، فيكون القسم واقعا بنفس الكتابة، ويحتمل أن يكون المراد المسطور والمكتوب، وعلى التقديرين فإن حملنا القلم على كل قلم في مخلوقات اللَّه كان المعنى ظاهرا، وكأنه تعالى أقسم بكل قلم، وبكل ما يكتب / بكل قلم، وقيل : بل المراد ما يسطره الحفظة والكرام الكاتبون، ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه، فيكون الضمير في يَسْطُرُونَ لهم، كأنه قيل : وأصحاب القلم وسطرهم، أي ومسطوراتهم. وأما إن حملنا القلم على ذلك القلم المعين، فيحتمل أن يكون المراد بقوله : وَما يَسْطُرُونَ أي وما يسطرون فيه وهو اللوح المحفوظ، ولفظ الجمع في قوله :
يَسْطُرُونَ ليس المراد منه الجمع بل التعظيم، أو يكون المراد تلك الأشياء التي سطرت فيه من الأعمال والأعمار، وجميع الأمور الكائنة إلى يوم القيامة.
واعلم أنه تعالى لما ذكر المقسم به أتبعه بذكر المقسم عليه فقال :
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٢ إلى ٤]
ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)