مفاتيح الغيب، ج ٣٠، ص : ٧٠٦
[سورة المدثر (٧٤) : آية ١٨]
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨)
يقال : فكر في الأمر وتفكر إذا نظر فيه وتدبر، ثم لما تفكر رتب في قلبه كلاما وهيأه وهو المراد من قوله : فَقَدَرَ. ثم قال تعالى :
[سورة المدثر (٧٤) : آية ١٩]
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩)
وهذا إنما يذكر عند التعجب والاستعظام، ومثله قولهم : قتله اللّه ما أشجعه، وأخزاه اللّه ما أشعره، ومعناه أنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك، وإذا عرفت ذلك فنقول إنه يحتمل هاهنا وجهين أحدهما : أنه تعجيب من قوة خاطره، يعني أنه لا يمكن القدح في أمر محمد عليه السلام بشبهة أعظم ولا أقوى مما ذكره هذا القائل والثاني : الثناء عليه على طريقة الاستهزاء، يعني أن هذا الذي ذكره في غاية الركاكة والسقوط. ثم قال :
[سورة المدثر (٧٤) : آية ٢٠]
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠)
والمقصود من كلمه، ثُمَّ هاهنا الدلالة على أن الدعاء عليه في الكرة الثانية أبلغ من الأولى. ثم قال :
[سورة المدثر (٧٤) : آية ٢١]
ثُمَّ نَظَرَ (٢١)
والمعنى أنه أولا : فكر وثانيا : قدر وثالثا : نظر في ذلك المقدر، فالنظر السابق للاستخراج، والنظر اللاحق للتقدير، وهذا هو الاحتياط. فهذه المراتب الثلاثة متعلقة بأحوال قلبه. / ثم إنه تعالى وصف بعد ذلك أحوال وجهه، فقال :
[سورة المدثر (٧٤) : آية ٢٢]
ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢)
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : اعلم أن قوله : عَبَسَ وَبَسَرَ يدل على أنه كان عارفا في قلبه صدق محمد صلى اللّه عليه وسلم إلا أنه كان يكفر به عنادا، ويدل عليه وجوه : الأول : أنه بعد أن تفكر وتأمل قدر في نفسه كلاما عزم على أنه يظهره ظهرت العبوسة في وجهه ولو كان معتقدا صحة ذلك الكلام لفرح باستنباطه وإدراكه، ولكنه لما لم يفرح به علمنا أنه كان يعلم ضعف تلك الشبهة، إلا أنه لشدة عناده ما كان يجد شبهة أجود من تلك الشبهة، فلهذا السبب ظهرت العبوسة في وجهه الثاني : ما
روي أن الوليد مر برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يقرأ حمّ السجدة فلما وصل إلى قوله : فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت : ١٣] أنشده الوليد باللّه وبالرحم أن يسكت،
وهذا يدل على أنه كان يعلم أنه مقبول الدعاء صادق اللهجة، ولما رجع الوليد قال لهم : واللّه لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى عليه، فقالت قريش : صبأ الوليد ولو صبأ لتصبأن قريش كلها. فقال أبو جهل : أنا أكفيكموه، ثم دخل عليه محزونا فقال مالك : يا ابن الأخ؟ فقال : إنك قد صبوت لتصيب من طعام محمد وأصحابه وهذه


الصفحة التالية
Icon