مفاتيح الغيب، ج ٣٠، ص : ٧٤٨
اختلاف الناس في المسكين قبل هذا، أما الأسير فقد اختلفوا فيه على أقوال : أحدها : قال ابن عباس والحسن وقتادة : إنه الأسير من المشركين،
روى أنه عليه الصلاة والسلام كان يبعث الأسارى من المشركين ليحفظوا وليقام بحقهم،
وذلك لأنه يجب إطعامهم إلى أن يرى الإمام رأيه فيهم من قتل أو فداء أو استرقاق، ولا يمتنع أيضا أن يكون المراد هو الأسير كافرا كان أو مسلما، لأنه إذا كان مع الكفر يجب إطعامه فمع الإسلام أولى، فإن قيل : لما وجب قتله فكيف يجب إطعامه؟ قلنا : القتل في حال لا يمنع من الإطعام في حال أخرى، ولا يجب إذا عوقب بوجه أن يعاقب بوجه آخر، ولذلك لا يحسن فيمن يلزمه القصاص أن يفعل به ما هو دون القتل ثم هذا الإطعام على من يجب؟ فنقول : الإمام يطعمه فإن لم يفعله الإمام وجب على المسلمين وثانيها : قال السدي : الأسير هو المملوك وثالثها : الأسير هو الغريم
قال عليه السلام :«غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك»
ورابعها : الأسير هو المسجون من أهل القبلة وهو قول مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير، وروى ذلك مرفوعا من طريق الخدري أنه عليه السلام قال : مِسْكِيناً فقيرا وَيَتِيماً لا أب له وَأَسِيراً قال المملوك : المسجون
وخامسها : الأسير هو الزوجة لأنهن أسراء عند الأزواج،
قال عليه الصلاة والسلام :«اتقوا اللّه في النساء فإنهن عندكم أعوان»
قال القفال : واللفظ يحتمل كل ذلك لأن الأصل الأسر هو الشد بالقد، وكان الأسير يفعل به ذلك حبسا له، ثم سمي بالأسير من شد ومن لم يشد فعاد المعنى إلى الحبس.
[قوله تعالى إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً] واعلم أنه تعالى لما ذكر أن الأبرار يحسنون إلى هؤلاء المحتاجين بين أن لهم فيه غرضين أحدهما :
تحصيل رضا اللّه وهو المراد من قوله : إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ والثاني : الاحتراز من خوف يوم القيامة وهو المراد من قوله : إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً وهاهنا مسائل :
المسألة الأولى قوله : إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ إلى قوله : قَمْطَرِيراً يحتمل ثلاثة أوجه أحدها : أن يكون هؤلاء الأبرار قد قالوا هذه الأشياء باللسان، إما لأجل أن يكون ذلك القول منعا لأولئك المحتاجين عن المجازاة بمثله أو بالشكر، لأن إحسانهم مفعول لأجل اللّه تعالى فلا معنى لمكافأة الخلق، وإما أن يكون لأجل أن يصير ذلك القول تفقيها وتنبيها على ما ينبغي أن يكون عليه من أخلص للّه حتى يقتدي غيرهم بهم في تلك الطريقة وثانيها : أن يكونوا أرادوا أن يكون ذلك وثالثها : أن يكون ذلك بيانا وكشفا عن اعتقادهم وصحة نيتهم وإن لم يقولوا شيئا. وعن مجاهد أنهم ما تكلموا به ولكن علمه اللّه تعالى منهم فأثنى عليهم.
المسألة الثانية : اعلم أن الإحسان من الغير تارة يكون لأجل اللّه تعالى، وتارة يكون لغير اللّه تعالى إما طلبا لمكافأة أو طلبا لحمد وثناء وتارة يكون لهما وهذا هو الشرك والأول هو المقبول عند اللّه تعالى، وأما القسمان الباقيان فمردودان قال تعالى : لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ [البقرة : ٢٦٤] وقال : وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم : ٣٩] ولا شك أن التماس الشكر من جنس المن والأذى. إذا عرفت هذا فنقول : القوم لما قالوا : إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ بقي فيه احتمال أنه أطعمه لوجه اللّه ولسائر الأغراض على سبيل التشريك، فلا جرم نفى هذا الاحتمال بقوله : لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً.
المسألة الثالثة : الشكور والكفور مصدران كالشكر والكفر، وهو على وزن الدخول والخروج، هذا قول جماعة أهل اللغة، وقال الأخفش : إن شئت جعلت الشكور جماعة الشكر وجعلت الكفور جماعة الكفر لقول :


الصفحة التالية
Icon