مفاتيح الغيب، ج ٣٠، ص : ٧٦٠
سورة المزمل واحتجوا عليه بأن قوله : فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ أمر وهو للوجوب لا سيما إذا تكرر على سبيل المبالغة، وقال آخرون : بل المراد التطوع وحكمه ثابت.
القول الثاني : أن المراد من قوله : وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ إلى آخر الآية ليس هو الصلاة بل المراد التسبيح الذي هو القول والاعتقاد، والمقصود أن يكون ذاكرا للّه في جميع الأوقات ليلا ونهارا بقلبه ولسانه، وهو المراد من قوله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب : ٤١].
واعلم أن في الآية لطيفة أخرى وهي أنه تعالى قال : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا [الإنسان : ٢٣] أي / هديناك إلى هذه الأسرار، وشرحنا صدرك بهذه الأنوار، وإذ قد فعلنا بك ذلك فكن منقادا مطيعا لأمرنا، وإياك وأن تكون منقادا مطيعا لغيرنا، ثم لما أمره بطاعته، ونهاه عن طاعة غيره قال : وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وهذا إشارة إلى أن العقول البشرية ليس عندها إلا معرفة الأسماء والصفات، أما معرفة الحقيقة فلا، فتارة يقال له :
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وهو إشارة إلى معرفة الأسماء، وتارة يقال له : وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ [الأعراف : ٢٠٥] وهو إشارة إلى مقام الصفات، وأما معرفة الحقيقة المخصوصة التي هي المستلزمة لسائر اللوازم السلبية والإضافية، فلا سبيل لشيء من الممكنات والمحدثات، إلى الوصول إليها والاطلاع عليها، فسبحان من اختفى عن العقول لشدة ظهوره واحتجب عنها بكمال نوره.
واعلم أنه تعالى لما خاطب رسوله بالتعظيم والنهي والأمر عدل إلى شرح أحوال الكفار والمتمردين، فقال تعالى :
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ٢٧]
إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧)
والمراد أن الذي حمل هؤلاء الكفار على الكفر، وترك الالتفات والإعراض عما ينفعهم في الآخرة ليس هو الشبهة حتى ينتفعوا بالدلائل المذكورة في أول هذه السورة، بل الشهوة والمحبة لهذه اللذات العاجلة والراحات الدينية، وفي الآية سؤالان :
السؤال الأول : لم قال : وَراءَهُمْ ولم يقل : قدامهم؟ الجواب : من وجوه أحدها : لما لم يلتفتوا إليه، وأعرضوا عنه فكأنهم جعلوه وراء ظهورهم وثانيها : المراد ويذرون وراءهم مصالح يوم ثقيل فأسقط المضاف وثالثها : أن تستعمل بمعنى قدام كقوله : مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ [إبراهيم : ١٦] وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ [الكهف :
٧٩].
السؤال الثاني : ما السبب في وصف يوم القيامة بأنه يوم ثقيل؟ الجواب : استعير الثقل لشدته وهوله، من الشيء الثقيل الذي يتعب حامله ونحوه ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف : ١٨٧].
ثم إنه تعالى لما ذكر أن الداعي لهم إلى هذا الكفر حب العاجل، قال :
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ٢٨]
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨)
والمراد أن حبهم للعاجلة يوجب عليهم طاعة اللّه من حيث الرغبة ومن حيث الرهبة، أما من حيث الرغبة فلأنه هو الذي خلقهم وأعطاهم الأعضاء السليمة التي بها يمكن الانتفاع باللذات العاجلة، وخلق جميع ما يمكن


الصفحة التالية
Icon