مفاتيح الغيب، ج ٣٠، ص : ٧٧١
أهلك الأولين من قوم نوح وعاد وثمود ثم أتبعهم الآخرين قوم شعيب ولوط وموسى كذلك نفعل بالمجرمين وهم كفار قريش، وهذا القول ضعيف لأن قوله : نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ بلفظ المضارع فهو يتناول الحال والاستقبال ولا يتناول الماضي البتة القول الثاني : أن المراد بالأولين جميع الكفار الذين كانوا قبل محمد صلى اللّه عليه وسلم، وقوله : ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ على الاستئناف على معنى سنفعل ذلك ونتبع الأول الآخر، ويدل على الاستئناف قراءة عبد اللّه سنتبعهم، فإن قيل : قرأ الأعرج ثم نتبعهم بالجزم وذلك يدل على الاشتراك في ألم، وحينئذ يكون المراد به الماضي لا المستقبل، قلنا : القراءة الثابتة بالتواتر نتبعهم بحركة العين، وذلك يقتضي المستقبل، فلو اقتضت القراءة بالجزم أن يكون المراد هو الماضي لوقع التنافي بين القراءتين، وإنه غير جائز.
فعلمنا أن تسكين العين ليس للجزم للتخفيف كما روي في بيت امرئ القيس :
واليوم أشرب غير مستحقب
ثم إنه تعالى لما بين أنه يفعل بهؤلاء المتأخرين مثل ما يفعل بأولئك المتقدمين قال : كَذلِكَ / نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي هذا الإهلاك إنما نفعله بهم لكونهم مجرمين، فلا جرم في جميع المجرمين، لأن عموم العلة يقتضي عموم الحكم.
ثم قال تعالى : وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي هؤلاء وإن أهلكوا وعذبوا في الدنيا، فالمصيبة العظمى والطامة الكبرى معدة لهم يوم القيامة.
السؤال الثاني : المراد من الإهلاك في قوله : أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ هو مطلق الإماتة أو الإماتة بالعذاب؟
فإن كان ذلك هو الأول لم يكن تخويفا للكفار، لأن ذلك أمر حاصل للمؤمن والكافر، فلا يصلح تحذيرا للكافر، وإن كان المراد هو الثاني وهو الإماتة بالعذاب، فقوله : ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ يقتضي أن يكون اللّه قد فعل بكفار قريش مثل ذلك، ومن المعلوم أنه لم يوجد ذلك، وأيضا فلأنه تعالى قال :
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال : ٣٣] الجواب : لم لا يجوز أن يكون المراد منه الإماتة بالتعذيب، وقد وقع ذلك في حق قريش وهو يوم بدر؟ سلمنا ذلك، فلم لا يجوز أن يكون المراد من الإهلاك معنى ثالثا مغايرا للأمرين اللذين ذكروهما وهو الإماتة المستعقبة للذم واللعن؟ فكأنه قيل : إن أولئك المتقدمين لحصرهم على الدنيا عاندوا الأنبياء وخاصموهم، ثم ماتوا فقد فاتتهم الدنيا وبقي اللعن عليهم في الدنيا والعقوبة الأخروية دائما سرمدا، فهكذا يكون حال هؤلاء الكفار الموجودين ومعلوم أن مثل هذا الكلام من أعظم وجوه الزجر.
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٢٠ إلى ٢٤]
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤)
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من تخويف الكفار ووجه التخويف فيه من وجهين : الأول : أنه تعالى


الصفحة التالية
Icon