مفاتيح الغيب، ج ٣١، ص : ١١
أما المعصرات ففيها قولان : الأول : وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس، وقول مجاهد، ومقاتل والكلبي وقتادة إنها الرياح التي تثير السحاب ودليله قوله تعالى : اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [الروم : ٤٨] فإن قيل على هذا التأويل كان ينبغي أن يقال وأنزلنا بالمعصرات، قلنا : الجواب : من وجهين الأول : أن المطر إنما ينزل من السحاب، والسحاب إنما يثيره الرياح، فصح أن يقال هذا المطر إنما حصل من تلك الرياح، كما يقال هذا من فلان، أي من جهته وبسببه الثاني : أن من هاهنا بمعنى الباء والتقدير، وأنزلنا بالمعصرات أي بالرياح المثيرة للسحاب ويروى عن عبد اللّه بن عباس وعبد اللّه بن الزبير وعكرمة أنهم قرءوا (و أنزلنا بالمعصرات) وطعن الأزهري في هذا القول، وقال الأعاصير من الرياح ليست من رياح المطر، وقد وصف اللّه تعالى المعصرات بالماء الثجاج وجوابه : أن الإعصار ليست من رياح المطر، فلم لا يجوز أن تكون المعصرات من رياح المطر؟
القول الثاني : وهو الرواية الثانية عن ابن عباس واختيار أبي العالية والربيع والضحاك أنها السحاب، وذكروا في تسمية السحاب بالمعصرات وجوها أحدها : قال المؤرج : المعصرات السحائب بلغة قريش وثانيها : قال المازني يجوز أن تكون المعصرات هي السحائب ذوات الأعاصير فإن السحائب إذا عصرتها الأعاصير لا بد وأن ينزل المطر منها وثالثها : أن المعصرات هي السحائب التي شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر كقولك : أجز الزرع إذا حان له أن يجز، / ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض، وأما الثجاج فاعلم أن الثج شدة الانصباب يقال : مطر ثجاج ودم ثجاج أي شديد الانصباب.
واعلم أن الثج قد يكون لازما، وهو بمعنى الانصباب كما ذكرنا، وقد يكون متعديا بمعنى الصب وفي الحديث «أفضل الحج العج والثج»
أي رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدي، وكان ابن عباس مثجا أي يثج الكلام ثجا في خطبته وقد فسروا الثجاج في هذه الآية على الوجهين، وقال الكلبي ومقاتل وقتادة الثجاج هاهنا المتدفق المنصب، وقال الزجاج معناه الصباب كأنه يثج نفسه أي يصب. وبالجملة فالمراد تتابع القطر حتى يكثر الماء فيعظم النفع به.
[سورة النبإ (٧٨) : الآيات ١٥ إلى ١٦]
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦)
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : كل شيء نبت من الأرض فإما أن لا يكون له ساق وإما أن يكون، فإن لم يكن له ساق فإما أن يكون له أكمام وهو الحب وإما أن لا يكون له أكمام وهو الحشيش وهو المراد هاهنا بقوله : وَنَباتاً وإلى هذين القسمين الإشارة بقوله تعالى : كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ [طه : ٥٤] وأما الذي له ساق فهو الشجر فإذا اجتمع منها شيء كثير سميت جنة، فثبت بالدليل العقلي انحصار ما ينبت في الأرض في هذه الأقسام الثلاثة، وإنما قدم اللّه تعالى الحب لأنه هو الأصل في الغذاء، وإنما ثنى بالنبات لاحتياج سائر الحيوانات إليه، وإنما أخر الجنات في الذكر لأن الحاجة إلى الفواكه ليست ضرورية.
المسألة الثانية : اختلفوا في ألفافا، فذكر صاحب «الكشاف» أنه لا واحد له كالاوزاع والأخياف، والأوزاع الجماعات المتفرقة والأخياف الجماعات المختلطة. وكثير من اللغويين أثبتوا له واحدا، ثم اختلفوا فيه، فقال


الصفحة التالية
Icon