مفاتيح الغيب، ج ٣١، ص : ١٧
بل قال لا يذوقون فيها بردا واحدا، وهو البرد الذي ينتفعون به ويستريحون إليه.
المسألة الثالثة : ذكروا في الحميم أنه الصفر المذاب وهو باطل بل الحميم الماء الحار المغلي جدا.
المسألة الرابعة : ذكروا في الغساق وجوها.
أحدها : قال أبو معاذ كنت أسمع مشايخنا يقولون الغساق فارسية معربة يقولون للشيء الذي يتقذرونه خاشاك «١» وثانيها : أن الغساق هو الشيء البارد الذي لا يطاق، وهو الذي يسمى بالزمهرير وثالثها : الغساق ما يسيل من أعين أهل النار وجلودهم من الصديد والقيح والعرق وسائر الرطوبات المستقذرة، وفي كتاب الخليل غسقت عينه، تغسق غسقا وغساقا ورابعها : الغساق هو المنتن، ودليله ما
روي أنه عليه السلام قال : لو أن دلوا من الغساق يهراق على الدنيا لأنتن أهل الدنيا
وخامسها : أن الغاسق هو المظلم قال تعالى : وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ [الفلق : ٣] فيكون الغساق شرابا أسود مكروها يستوحش كما يستوحش الشيء المظلم، إذا عرفت هذا فنقول إن فسرنا الغساق بالبارد كان التقدير : لا يذوقون فيها بردا إلا غساقا ولا شرابا إلا حميما، إلا أنهما جمعا لأجل انتظام الآي، ومثله من الشعر قول امرئ القيس :
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا لدي وكرها العناب والحشف البالي
والمعنى كأن قلوب الطير رطبا العناب ويابسا الحشف البالي. أما إن فسرنا الغساق بالصديد أو بالنتن احتمل أن يكون الاستثناء بالحميم والغساق راجعا إلى البرد والشراب معا، وأن يكون مختصا بالشراب فقط.
أما الاحتمال الأول : فهو أن يكون التقدير لا يذوقون فيها شرابا إلا الحميم البالغ في الحميم والصديد المنتن.
وأما الاحتمال الثاني : فهو أن يكون التقدير لا يذوقون فيها شرابا إلا الحميم البالغ في السخونة أو الصديد المنتن واللّه أعلم بمراده، فإن قيل الصديد لا يشرب فكيف استثنى من الشراب؟ قلنا : إنه مائع فأمكن أن يشرب في الجملة فإن ثبت أنه غير ممكن كان ذلك استثناء من غير الجنس ووجهه معلوم.
المسألة الخامسة : قرأ حمزة والكسائي وعاصم من رواية حفص عنه غساقا بالتشديد فكأنه فعال بمعنى سيال، وقرأ الباقون بالتخفيف مثل شراب والأول نعت والثاني اسم.
واعلم أنه تعالى لما شرح أنواع عقوبة الكفار بين فيما بعده أنه : جَزاءً وِفاقاً وفي المعنى / وجهان :
الأول : أنه تعالى أنزل بهم عقوبة شديدة بسبب أنهم أتوا بمعصية شديدة فيكون العقاب وِفاقاً للذنب، ونظيره قوله تعالى : وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى : ٤٠] والثاني : أنه وِفاقاً من حيث لم يزد على قدر الاستحقاق، ولم ينقص عنه وذكر النحويون فيه وجوها : أحدها : أن يكون الوفاق والموافق واحدا في اللغة والتقدير جزاء موافقا وثانيها : أن يكون نصبا على المصدر والتقدير جزاء وافق أعمالهم وِفاقاً وثالثها : أن يكون وصف بالمصدر كما يقال فلان فضل وكرم لكونه كاملا في ذلك المعنى، كذلك هاهنا لما كان ذلك الجزاء كاملا في كونه على وفق الاستحقاق وصف الجزاء بكونه وِفاقاً ورابعها : أن يكون بحذف المضاف والتقدير

(١) وجه الدلالة على هذا خفي ولعل الكلمة مصحفة وصوابها «غاساك» بالغين المعجمة والسين المهملة أو «غاساق» ثم عربت إلى «غساق».


الصفحة التالية
Icon