مفاتيح الغيب، ج ٣٢، ص : ٢٠٦
والقول الثاني :(إن المراد من شرح الصدر ما يرجع إلى المعرفة والطاعة، ثم ذكروا فيه وجوها أحدها :
أنه عليه السلام لما بعث إلى الجن والإنس فكان يضيق صدره عن منازعة الجن والإنس والبراءة من كل عابد ومعبود سوى اللّه، فآتاه اللّه من آياته ما اتسع لكل ما حمله وصغره عنده كل شيء احتمله من المشاق، وذلك بأن أخرج عن قلبه جميع الهموم وما ترك فيه إلا هذا الهم الواحد، فما كان يخطر بباله هم النفقة والعيال، ولا يبالي بما يتوجه إليه من إيذائهم، حتى صاروا في عينه دون الذباب لم يجبن خوفا من وعيدهم، ولم يمل إلى مالهم، وبالجملة فشرح الصدر عبارة عن علمه بحقارة الدنيا وكمال الآخرة، ونظيره قوله : فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الأنعام : ١٢٥] وروي أنهم قالوا : يا رسول اللّه أينشرح الصدر؟ قال : نعم، قالوا : وما علامة ذلك؟ قال :«التجافي عن الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإعداد للموت قبل نزوله»
وتحقيق القول فيه أن صدق الإيمان باللّه ووعده ووعيده يوجب للإنسان الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والاستعداد للموت وثانيها : أنه انفتح صدره حتى أنه كان يتسع لجميع المهمات لا يقلق ولا يضجر ولا يتغير، بل هو في حالتي البؤس والفرح منشرح الصدر مشتغل بأداء ما كلف به، والشرح التوسعة، ومعناه الإراحة من الهموم، والعرب تسمي الغم والهم ضيق صدر كقوله : وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ [الحجر : ٩٧] وهاهنا سؤالات :
الأول : لم ذكر الصدر ولم يذكر القلب؟ والجواب : لأن محل الوسوسة هو الصدر على ما قال :
يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس : ٥] فإزالة تلك الوسوسة وإبدالها بدواعي الخير هي الشرح، فلا جرم خص ذلك الشرح بالصدر دون القلب، وقال محمد بن علي الترمذي : القلب محل العقل والمعرفة، وهو الذي يقصده الشيطان، فالشيطان يجيء إلى الصدر الذي هو حصن القلب، فإذا وجد مسلكا أغار فيه ونزل جنده فيه، وبث فيه من الهموم والغموم والحرص فيضيق القلب حينئذ ولا يجد للطاعة لذة ولا للإسلام حلاوة، وإذا طرد العدو في الابتداء منع وحصل الأمن ويزول الضيق وينشرح الصدر ويتيسر له القيام بأداء العبودية.
السؤال الثاني : لم قال : أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ولم يقل ألم نشرح صدرك؟ والجواب : من وجهين أحدهما : كأنه تعالى يقول لام بلام، فأنت إنما تفعل جميع الطاعات لأجلي كما قال : إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات : ٥٦]، أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه : ١٤] فأنا أيضا جميع ما أفعله لأجلك وثانيها : أن فيها تنبيها على أن منافع الرسالة عائدة إليه عليه السلام، كأنه تعالى قال : إنما شرحنا صدرك لأجلك لا لأجلي.
السؤال الثالث : لم قال : أَلَمْ نَشْرَحْ ولم يقل ألم أشرح؟ والجواب : إن حملناه على نون التعظيم، فالمعنى أن عظمة المنعم تدل على عظمة النعمة، فدل ذلك على أن ذلك الشرح نعمة لا تصل العقول إلى كنه جلالتها، وإن حملناه على نون الجميع، فالمعنى كأنه تعالى يقول : لم أشرحه وحدي بل أعملت فيه ملائكتي، فكنت ترى الملائكة حواليك وبين يديك حتى يقوي قلبك، فأديت / الرسالة وأنت قوي القلب ولحقتهم هيبة، فلم يجيبوا لك جوابا، فلو كنت ضيق القلب لضحكوا منك، فسبحان من جعل قوة قلبك جبنا فيهم، وانشراح صدرك ضيقا فيهم. ثم قال تعالى :
[سورة الشرح (٩٤) : الآيات ٢ إلى ٣]
وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣)